من المسؤول عن ضحية قصف السفارة واسقاط الطائرة الأوكرانية؟
صائب خليل
ليس واضحا حتى ساعة كتابة هذه المقالة، إن كانت هناك بالفعل طفلة قد قتلت في قصف المقاومة للسفارة الامريكية ام انها جزء من حملة الإعلام الأمريكي الشرسة ضد المقاومة العراقية، لكننا في هذه المقالة سنحاول مناقشة مبدأ الذنب في مثل هذه القضية، إن لم يكن لهذه الحادثة فللمستقبل، لذلك سنفترض انها صحيحة وأن هناك ضحايا سقطت بالفعل.
وقبل ان ابدأ اريد ان اشير الى ان موقف المقاومة معبرا عنه بالبيان الذي نشر، موقف عليه علامات استفهام كبيرة سأطرحها في مقالة تالية لكي لا تشوش على مناقشة مبدأ الذنب الذي خصصت له هذه المقالة.
إذن لنفرض ان ضحايا قد سقطت بالفعل، فمن هو المسؤول في هذه الحالة عن تلك الجريمة؟
لكي اشرح رأيي بالأمر بوضوح، اسمحوا لي ان استعين بأمثلة تاريخية. دعونا نعود أكثر من نصف قرن الى الوراء، حين وصف المؤرخ والمستشار السابق لكندي، آرثر سليزنجر، لحظة تأريخية مرت على اميركا في اكتوبر 1962, بانها “أخطر لحظة في تأريخ البشرية”. وشرح وزير الدفاع الأمريكي حينها، روبرت ماكنامارا ذلك بقوله: “لقد كان العالم على بعد شعرة من دمار نووي”!
في 27 تشرين الأول 1962، وخلال ازمة الصواريخ الكوبية، قامت 11 مدمرة امريكية بقيادة حاملة الطائرات “يو اس اس راندولف”، بمحاصرة غواصة نووية سوفيتية من طراز بي 59 وبدأت بإلقاء قنابل الأعماق تجاهها. وفهم ضابط الغواصة فالنتين سافتسكي الذي كان يعلم بالطبع بالتوتر في الخارج، انه من المحتمل ان الحرب قد بدأت، فأستعد لإطلاق طوربيد ذو رأس نووي. ولكن لأجل اطلاقه كان يتوجب اتفاق سافتسكي مع الضابط السياسي سيمنوفج وقائد الغواصة ارخيبوف على ذلك، وكان هذا الأخير هو الوحيد الذي عارض الإطلاق بعد مجادلة مع الضابطين الآخرين. ولان اتفاق الثلاثة ضروري لإطلاق الطوربيد النووي، لم يتم الإطلاق!
لاحقاً، في المؤتمر الذي انعقد في تشرين الأول 2002 بمناسبة مرور 40 عام على الأزمة، وكان ارخيبوف قد توفى قبل ثلاث سنين، كشفت وثائق القصة، وقال ثوماس بلانتون، مدير ارشيف الأمن القومي الأمريكي: “الولد الذي اسمه فاسيلي ارخيبوف أنقذ العالم”..(1)
هذه قصة أخرى: في سبتمبر 1983 اعتبر ستانسلاف بيتروف أن كومبيوتر المراقبة للرادارات عبر الأقمار الصناعية، قد اعطى انذاراً كاذباً حين اشار الى ان قذيفة امريكية تتجه الى الإتحاد السوفيتي، على فرضية أن أي هجوم من هذا النوع يجب ان يكون متعدد القذائف.
ولكن بعد ان اعطى الكومبيوتر اشارات عن قذيفة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة…. اشتد توتر بتروف ولم يدر ما يفعل. فإن أرسل التقرير الى القيادة ليقرروا بأنفسهم، فهو يعرف انه لن يكون لديهم خيارا سوى ان يطلقوا صواريخهم الذرية باتجاه اميركا، وستكون نهاية العالم. وان لم يفعل فلريما يتمزق بلده بقنابل امريكية دون ان يتاح له الرد. قرر المراهنة وقبل بالحل الثاني، فأنقذ الحياة البشرية، بل أنقذ الحياة على الأرض.
لنتوقف هنا، ونسأل أنفسنا سؤالا افتراضيا: لو فرضنا ان بيتروف او ارخيبوف قد قررا عكس ما قرراه بالفعل، وأطلق أي منهما الصاروخ الذري الأول في حرب عالمية نووية ربما لا تبقي كائنا حياً على الأرض، فمن الذي يمكن ان نلومه على جريمة اشعال هذه الحرب ونحمله وزر خسائرها؟ (بفرض بقاء حي سيسأل ذلك السؤال).
ربما يقول المنطق البسيط: من أطلق الصاروخ النووي الأول هو من يتحمل مسؤولية جريمة الحرب النووية!
لكن نظرة أخرى تكشف لنا خللا في هذا المنطق. ففي ذلك الظرف الذي وجدا فيه، فأن قرار أي من بيتروف او أرخيبوف بإطلاق السلاح النووي، كان سيكون القرار “الطبيعي” والمتوقع من أي شخص في مكانهما! فكيف يكون “القرار الطبيعي” المتوقع اتخاذه من معظم الناس، “جريمة”؟
الحقيقة ان هذا ليس فقط مخالف للمنطق السليم، انما أيضا مخالف لنصوص مبادئ القانون، والتي تقول ان أي فعل لا يعتبر جريمة إن كان شائعا، أي “طبيعي”.
كيف نحدد المسؤول عن الجريمة إذن؟
ربما نقول: في الحالة الأولى ضباط البحرية الأمريكان هم المذنبون لأنهم بدأوا بقصف الغواصة. لكن الأمريكان لم يكونوا يعلمون انها غواصة نووية. ولذا فذنبهم محصور في قصف غواصة، مثلما يحدث كثيراً في المناوشات، خاصة في وضع متوتر كانوا يشعرون فيه بالخطر السوفيتي. لذلك فتصرفهم “طبيعي” إلى حد ما.
وربما نقول عن القصة الثانية ان المذنب هم السوفييت، لأنهم لم يصنعوا حاسبات ورادارات موثوقة وهم المسؤولين عن اخطائها. لكن مما لا شك فيه ان السوفييت قد فعلوا كل ما يستطيعون لبناء أفضل ما يمكنهم من رادارات وحاسبات ليتجنبوا مثل هذا الخطأ، لكن الدقة الكاملة مستحيلة، خاصة في تكنولوجيا محدودة التطور وعلى حاسباتهم ان تتخذ قراراتها في احتمالات تشويش متوقعة. وعلى اية حال فهذه كانت حدود قدراتهم، ولا يستطيع أحد ان يلومهم لأنهم يستخدمون ما تمكنوا من صنعه لحماية أنفسهم، وهو بالتأكيد تصرف “طبيعي”!
من المسؤول عن هذه الجرائم إذن؟
المسؤول عنها هو من وضع العالم في وضع يؤدي فيه التصرف البشري “الطبيعي” إلى القضاء على العالم! من أوصل التوتر في العالم الى حافة الحياة والموت للبشرية وللحياة كلها بلا مسؤولية، حتى أصبحت نجاة العالم تتطلب دقة شديدة وتضحيات ومخاطرات، وصار دماره هو المتوقع في اية لحظة!
من هو؟ ليس هذا هو السؤال المهم الآن، ويمكننا ان نختلف في الإجابة عنه، لكننا إن اتفقنا على العبارة أعلاه، فقد حصلنا على الجواب المبدئي، ووجدنا أداة للقياس لتحدد المذنب في مثل هذه الحالة.
دعونا نحاول ان نجرب المبدأ لتحديد المذنب في قتل ركاب الطائرة الأوكرانية التي اسقطتها الصواريخ الإيرانية بالخطأ فوق سماء إيران. من المسؤول عن هذه “الجريمة” وفق هذا المبدأ؟
الضابط الذي أمر بإطلاق الصاروخ على الطائرة، أوضح أن هناك خطأ حدث في التقدير. ولان الأجواء متوترة جداً، بسبب اغتيال اميركا للقائدين سليماني والمهندس، ثم الرد الإيراني على ذلك بقصف قاعدة أمريكية في العراق، وتوقع احتمال رد أمريكي عنيف، فأن العالم وضع على حافة الخطر، وأي خطأ يمكن أن يؤدي الى كارثة، وهو ما حدث بالفعل! فمما لا شك فيه ان ضرب الطائرة كان عن طريق الخطأ، لان لا مصلحة لإيران في اسقاطها.
مما لا خلاف عليه أن اميركا هي التي خلقت الجو المتوتر بجريمة اغتيالها المزدوجة، و “هيأت الظرف” الذي يؤدي فيه أي خطأ بشري “طبيعي” إلى احتمال كارثة، فهذه هي الجريمة الحقيقية وليس الخطأ، وهذا هو من ارتكبها، وليس من ارتكب الخطأ المباشر، وهذا هو المسؤول عنها!
فحتى لو كان الصاروخ الذي أسقط الطائرة، صاروخ إيراني وعلى ارض إيرانية، ولم تتدخل اميركا في الموضوع مباشرة، فأنها بتصرفها الأول، جعلت من رد الفعل البشري “الطبيعي” امراً محفوفا بالخطر، وهيأت لأي خطأ احتمال ان يتحول الى جريمة كبيرة!
وبالتالي فأمريكا هي المسؤولة عن اسقاط الطائرة وقتل ركابها!
ولنعد الآن الى سؤالنا: من المسؤول عن سقوط قتلى أبرياء في قصف المقاومة العراقية للسفارة الامريكية؟
من الطبيعي لأي شعب ان يريد اخراج القوات الأجنبية من بلاده، خاصة بعد قيامها باغتيال رموز كبيرة له، وسبقتها بجرائم قتل متعمد ودعم الإرهاب المتمثل بداعش وغيرها لتحطيم بلاده والنشاطات المشبوهة للسفارة المخيفة التي لا تشبه اية سفارة طبيعية ولا تفسير لحجمها إلا بالعدوان على البلد والتسلط عليه.
لذلك فنحن امام تصرف “طبيعي” من المقاومة لا يمكن ان يعتبر مسؤولا عن جريمة. وهنا أيضا المسؤول عنها هو من خلق الجو غير الطبيعي، أي الإدارة الأمريكية المصرة على إدامة الاحتلال وتعيين العملاء فوق رؤوس الشعب العراقي وتحطيم اقتصاده ومجتمعه، كما يراها الغالبية الساحقة من العراقيين، حتى ممن لا يدعم المقاومة منهم!