من اجل سنة مقاومة (3) نحو فكر سياسي أنضج ومواقف أكثر تماسكاً
صائب خليل
مثلما يساعد الاعتراف بالخطأ على تجنبه مستقبلا، فأن الاعتراف بالجهل، يجعلك تتواضع وتبحث وتسأل.. تشك بقرارك وتراجع وتقارن فتتعلم بناء موقفك على أساس جيد يساعدك على المناورة متى ما تغيرت الظروف، وعلى الرد متى ما طرح السؤال. فما هي النقاط التي يجب على المقاومة ملؤها على وجه السرعة في تصورها السياسي ووعيها لما هو حولها ومنطق التعامل معه؟ هذا سيكون حديث هذه الحلقة من “من أجل سنة مقاومة” وتجدون الحلقتين السابقتين على الرابطين ادنى المقالة.(1)(2)
من الصعب الحديث عن “المقاومة” ككل وإعطاء حكم عام عنها، فليس من السهل تحديد من يمثلها بالضبط. لو تحدثنا عن هادي العامري، فالرجل لا يكاد يقول شيئا صحيحا، إلا ما كان شعارات خالصة بسيطة. وإعادة انتخابه من قبل الفتح، بعد كل هذه “الأخطاء” و “الخطايا” بحق الوطن، امر صادم يؤكد ان الخلل عام وشامل، وان المزيد من المآسي ستلحق بالعراق قبل ان تفهم قيادات المقاومة، حجم الخطر الذي يحيطه.
كذلك شاهدت الأداء المؤسف للنائب أحمد الكناني عن “صادقون” في مواجهة بليغ أبو گلل، وأبو گلل أحد اشد الشخصيات قباحة وانحطاطا أخلاقيا بكل معاني الكلمات للانحطاط الأخلاقي، وكان الكناني يتصرف وكأنه متهم وحركة المقاومة متهمة عليها ان تدافع عن نفسها وتبرير مواقفها وتأكيدها الشديد على سلميتها وحضاريتها الخ، دون ان يتخذ موقفا واحدا يشبه المقاومة او يهاجم منطق محدثه، الذي افترض ان أي مقاوم يجب ان يكون لديه نفور منه ويعرف كيف يرد عليه.
لذلك، وكما في مرة سابقة انتقدت فيها المقاومة من خلال المواقف التي أعلنها الشيخ قيس (())، سأكرر هذا المنهج هنا، من خلال الإشارة الى أحاديث الرجل مع قنوات التلفزيون، فلعل الرجل خير من يمثل المواقف السياسية للمقاومة.
قبل ان نتحدث عن النقاط السلبية، دعونا نؤكد نقطتين ايجابيتين مهمتين جاءت في الحديث، وهي تأكيده على ضرورة “الأحزاب” في الحكم ورفضه للخطأ الشائع بأن تنظيم الحزب هو مصدر الفساد، وأكد انه لا يمكن إدارة الديمقراطية في العراق بلا أحزاب. وهذا ما كتبت عنه في مقالات عديدة. وكون الامر خطأ جسيما شائعا في مفهوم الديمقراطية، فإنها نقطة كبيرة تحسب للرجل، رغم انه لم يكن دقيقا في كل ما أورده عنها، وتصور انها ضرورية فقط لأن نظامنا انتخابي برلماني.
النقطة الأخرى القوية هي اعتراضه على مفهوم البيت الشيعي والوحدة الشيعية وترميم البيت وغيرها، وهي أيضا نقطة سبق لي الكتابة عنها مؤخراً، رغم ان الرجل لم يتطرق الى اهم نقاط الخلل فيها، كما أوضحت في المقالة، وهي انها، إضافة الى كونها تنقل عالم السياسة الى عالم المذاهب، فإنها تكلف الأحزاب الشيعية بالذات الكثير من السلطة وتهبط بالسياسة الى التحاصص والنهب وتنفي الحاجة إلى وجود برنامج وهدف سياسي.
كذلك كان للشيخ رأي سليم عن دور الأمم المتحدة في الانتخابات العراقية، وهو انه يجب ان يقتصر على المراقبة وليس الإشراف، لأن ممثلة الأمم المتحدة لم تكن حيادية. ولا يشارك هذا الرأي الصحيح والواضح والصريح للشيخ، معظم الجهات السياسية، او لا يجرؤون على اتخاذه، وهي نقطة أخرى تحسب له.
للرجل أيضا فضل إضافة نقاط معلوماتية مهمة تسهم في تغطية الشحة الهائلة في الشفافية في السياسة العراقية، والتي تبدو وكأنها تطبخ بين قادة السياسة والسفارة والمرجعيات الدينة والتهديد وغيره، دون ان يعمل الشعب شيئا واضحا محددا. فالجميع يبدو أكثر اخلاصا لهذه المجموعة التي تقرر الامر مما هو مهتم بأن يكشف للشعب كيف يقرر مصيره.
كشف الشيخ عن الطلب الإيراني للمقاومة العراقية بترك إيران ترد أولا على جريمة اغتيال الشهيدين، وهذه حقيقة تكشف لأول مرة! (4)
وهي تضع علامة استفهام كبيرة على شفافية العلاقة بين السيد الخامنئي والحكومة الإيرانية او الجهة التي طلبت من المقاومة العراقية تأجيل رد فعلها. فلو كان السيد الخامنئي يعلم بهذا الطلب، لما وجه اللوم الى الكاظمي لعدم تحرك العراق للرد.
كذلك كشف الشيخ عن هيكلية السفارة وكيف انها تعمل على تقييد القرار العراقي في كل الوزارات والمؤسسات من خلال حكومة ظل توجه الحكومة العراقية وتسيرها. وقال أيضا أن “الوجود العسكري الأمريكي ليس موجه لداعش”، حسبما حلل هيكليته وتركيبه، بل موجه للقبض على السلطة في العراق.
كشف أيضا أن الهدنة مع الامريكان لم تكن من خلال بلاسخارت بل من هادي العامري، وهي نقطة تركت المقاومة فيها جمهورها في “ضلال عظيم” وجهل قاتم يضرب اخماسا بأسداس وكأنه ليس جمهورها بل عدوها الذي تخشى من معرفته اية حقائق، فأبقته في الجهل حتى جاء هذا التصريح.
وحول وصول عميل السفارة الكاظمي الى الحكم، أوضح الشيخ الكثير من الغوامض، مثل قوله إن من الخطأ اعتبار ان الكاظمي جاء برضا الأغلبية(5) حيث أوضح (رغم انه لم يكن مقنعا) – عمليا صرنا اقلية(6)
وبين رأيه من النقطة شديدة السواد والظلام في السياسة العراقية: كيفية اختيار المرشح لرئاسة الحكومة، فقال إن العاملين الأقوى الذين يحددان تمرير رئيس الوزراء هما، أولاً موقف القوى السياسية وثانيا موافقة المرجعية او على الأقل عدم اعتراضها! (7)
وهذا يحمل المرجعية، ان صح الكلام، جزء خطيرا من المسؤولية عن تمرير رؤساء فاسدين، وقد نعود الى الموضوع لاحقا في مقالة أخرى.
وإن جئنا الى نقاط الخلل في تفكير المقاومة نجد ما يلي:
يقول الشيخ انه كان من المعترضين على تولي الكاظمي. وأول سبب أعطاه هو أنه من “مزدوجي الجنسية”(8)
وهنا المتحدث محق في رايه، لكن طرحه بهذه الطريقة غير مناسب. فانت تعترض على مخالفة دستورية وانت ممن اقسموا على حماية الدستور وتنفيذه، انت ومن معك كلهم. وهنا يثار السؤال: ما الذي فعلته لتنفذ قسمك ولتمنع هذه المخالفة الدستورية، التي هي خيانة للقسم وللناس؟
ايضاً طريقة الكلام عن الكاظمي ضعيفة ومختلة. فرغم انها توجه الانتقاد له لكنها تخرب مبادئها بطريقتها. فهو يعلم ان الذي امامه هو عميل للسفير الأمريكي وكاد يقول ذلك بشكل مباشر حين نصحه باللجوء الى شعبه وبأن هذا السفير سفير ترمب وهو مغادر، وأشار اليه بان الامريكان ليسوا أوفياء! ويطالبه أن “ينطلق من المصالح الوطنية ولا يتأثر بالضغوط الخارجية”!(9)
فهل لو كان السفير كان سفير بايدن، او لو كان الامريكان أوفياء لعملائهم لما كان هناك مشكلة؟ والحقيقة أن ما وصفه بـ “ضغوط خارجية” هي تعليمات مباشرة، وموجهة لتدمير العراق. أتفهم ان لا يستطيع قول ذلك في مقابلة، لكن يجب قول ما هو ممكن والصمت دون الإيحاء ان العميل هو شخص مسكين مغرر به يحتاج نصيحة ليصحح دربه!
في منطقة أخرى ينتقد الكاظمي انه لم يجد شخصا لرئاسة لجنة محاربة الفساد الا متهم بالفساد، مؤكداً: “رحم الله من جب الغيبة عن نفسه”! كذلك انتقد اختياره لرئيس البنك المركزي الذي قال انه يجب ان يكون شخصية مهنية نزيهة، او على الأقل ما متهم! (10)
المشكلة في هذا الحديث ان الشيخ يتحدث عن جرائم بحق الوطن، لكنه يتحدث عنها بلغة اللطف والصداقة وليس المحاسبة، التي هي دوره ودور نوابه، حتى ان نزعنا صفة الثورية والمقاومة عنهم! وبنفس الوقت فهو يثير التساؤل: “لكن اليس هذا ما فعلتموه برئاسة الحكومة؟ لماذا جئتم بشخص يستصعب “فك الخط” لهذا المنصب الخطير، حتى ان نسينا عمالته؟ لماذا لم تأتوا بشخص “على الأقل ما متهم” بتهريب الأرشيف الى اميركا واغتيال الشهداء؟
في مقابلة أخرى له قال شيخ قيس، مبررا اختيار العميل الكاظمي بالظروف: أفضل شيء كان هو ان يكون هناك رئيس وزراء (شيعي) غير مرتبط بالمحور الإيراني بل بالعكس قريب من المحور الأمريكي الخليجي ورجل علماني مو إسلامي.
وأعطى لذلك سبيين: الأول ان بعض العراقيين يجب ان يفهموا انه مثلما لا مصلحة للعراق ان يكون في محور الشرق فلا مصلحة له في محور الغرب.
والثاني تصور الناس ان سبب مشاكل العراق هو الفساد وسبب الفساد هو رئيس وزراء شيعي إسلامي مرتبط بإيران،
وأكمل الشيخ: والآن لدينا رئيس وزراء شيعي غير إسلامي وغير مرتبط بإيران.. (رغم تحفظه على صحة هذا الارتباط)، مؤكداً انهم أرادوا ان يبرهنوا للناس ان هذا لن يجعل الأمور (في البلد) أفضل، بل أسوأ! (11)
هذه العبارات تعطينا فكرة واضحة ومقلقة جدا عن طريقة تفكير المقاومة ومنطقها، وتدل على خلل كبير جدا!
بداية، نحن نتحدث عن مواقف سياسية ويفترض ان نهتم بمواصفات الشخص السياسية وليس شيء لا علاقة له بالسياسة مثل كونه “علماني” أو “شيعي”! ولو ان سياسيا قال اننا أردنا ان نبرهن أن أصحاب الأنف الكبير لا يحسنون وضع البلد، لضحك الناس منه، لأن حجم الأنف لا يعطينا مؤشرا عن المواقف السياسية للشخص. وهذا لا يختلف ايضاً، فكونه علماني لا يعني أي شيء هنا، ولا كونه شيعياً. ما يؤثر كثيرا هو موقفه من الاحتلال مثلا، وهو حسبما يفهم الناس الموقف الأهم بالنسبة لكم على الأقل!
ثم ما معنى “علماني شيعي”؟ المفروض ان كون الشخص “علماني” ينفي كونه شيعياً، إن اعتبرنا المذهب قضية فكرية وليس وراثية. وبالتالي فالعبارة لا معنى لها، إلا إذا فهمنا كلمة “شيعي” على الطريقة العنصرية وليس الفكرية، أي ان يكون من العوائل الشيعية! وهذا منطق شائع ولكنه خطير، لأنه من جهة يحصر وظيفة بمذهب معين وكأنها مكسب وليس واجب، وثانياً يحمل المذهب الشيعي تبعات كل السفلة الذين ينتمون الى عوائله ولا ينتمون الى مفاهيمه، والأمر نفسه طبعا بالنسبة للسنة. وهذا الخلط بين المذهب والعوائل، هو ما أتاح للاحتلال ان يختار عملاء له من هذه العوائل وتلك ويسميهم “شيعة” و “سنة” وهم ليسوا إلا “عملاء أمريكان” وينتظر من المقاومة ان تكون اول من يدرك ذلك!
النقطة الأخرى الأكثر اقلاقاً هو مفهوم ان يتبرع صاحب الحق في اختيار مرشح الحكومة، بحقه وحق مرشحيه وبمسؤوليته تجاههم وتجاه الشعب كله، من أجل ان يبرهن لمجموعة (أفترض انها التظاهرات) بأن الوضع في العراق سيكون أسوأ مما لو كان الخيار “شيعي إسلامي ملتزم”!
وهنا الصدمة، أن لا يجد هذا القائد مشكلة في دفع البلاد في وضعها السيء جدا والخطر، الى حال أسوأ وأخطر، من اجل ان “يبرهن” لبعض المتظاهرين، خطأهم! هذا التبرير يعني، إن فهمناه على ما طرح عليه، ان كل ما يهم الشيخ قيس هو أن يبين ان رئيس وزراء علماني (شيعي) هو أسوأ من رئيس وزراء إسلامي (شيعي)، فيرفع الاتهام عن قيادة الإسلام السياسي (الشيعي) بأنها سبب خراب البلد، وليخرب البلد بعد ذلك!
والسؤال الأول هنا: ماذا عن ناخبيك، وهم الأغلبية؟ الست ملزما ان تبرهن لهم شيئا؟ الست ملزم بتنفيذ وعدك لهم؟ الست ملزما امامهم بقيادة العراق، وطنك، بالاتجاه الذي وعدتهم به، والوقوف بوجه التحطيم والاحتلال؟ هل يجب التضحية بالبلد من اجل اقناع المتظاهرين بأن خيارهم “العلماني” أسوأ؟ ماذا لو تبين انهم لم يهتموا ببرهانك، ولا حتى بقضية العلمانية والدين؟ ولو اقتنعوا، فما هو المكسب العظيم الذي استحق كل تلك التضحية وزرع الجيش والشرطة والامن بالعملاء أكثر مما كانت مزروعة بهم وتدمير الاقتصاد واغراق البلاد في الديون وغيرها من الكوارث التي طالما تمنى الاحتلال اغراق البلد فيها؟
اليس الطريق الطبيعي والصحيح هو ان تأتي بالحكومة التي وعدت ناخبيك بها وفي نفس الوقت تبرهن للجميع بأنها الأفضل وبشكل مباشر من خلال سياسة امينة تواجه بعض اهم مشاكل البلد المستعصية التي وعدتهم بحلها مثل الاحتلال والفساد؟ في مقالة سابقة بعنوان “التنازل عن المناصب – تضحية أم خيانة للناخبين؟”(12) بينت خلل هذا المنطق الشديد، لكن السؤال: هل يحتاج الأمر خبير في السياسة ليرى الخلل؟
(1) من اجل سنة مقاومة 1- الاقتصاد والمجتمع والحرص الأمني
https://saieb.com/article/588
(2) من أجل سنة مقاومة 2 – تقييم تظاهرة الذكرى الأولى لاغتيال الشهيدين
(3) من اجل سنة مقاومة (3) نحو فكر سياسي أنضج ومواقف أكثر تماسكاً
(4) الطلب الإيراني للمقاومة العراقية بترك إيران ترد أولا
https://youtu.be/aLuUC0bx4-s?t=1270
(5) من الخطأ اعتبار ان الكاظمي جاء برضا الأغلبية
https://youtu.be/8yoAi_fvDDE?t=2799
(6)عمليا صرنا اقلية
https://youtu.be/8yoAi_fvDDE?t=2783
(7) موافقة المرجعية شرط لتمرير الحكومة
https://youtu.be/8yoAi_fvDDE?t=2937
(8) اعتراض الشيخ على ازدواج جنسية المرشحين
https://youtu.be/aLuUC0bx4-s?t=1139
(9) نصيحة للعميل بترك السفير واللجوء الى الشعب
https://youtu.be/aLuUC0bx4-s?t=1187
(10) اختر لرئاسة البنك المركزي شخص مهني غير متهم
https://youtu.be/aLuUC0bx4-s?t=3452
(11) اخترناه لنبرهن انه سيجعل الأمور في البلد اسوأ
https://youtu.be/8yoAi_fvDDE?t=2834
(12) التنازل عن المناصب – تضحية أم خيانة للناخبين؟