متى تكون حرية السوق والتجارة في صالحك ومتى لا تكون؟

متى تكون حرية السوق والتجارة في صالحك ومتى لا تكون؟

صائب خليل

21 ك1 2020

هل من “مصلحة البلد” ان يغلق حدوده تجارياً بوجه البضاعة الأجنبية من خلال تحديدات او ضرائب (مؤثرة)، أم ان يفتحها؟

من الواضح ان من “مصلحة البلد” ان تزدهر صناعته وتجارته وان تنتشر وتباع بأكبر كميات ممكنة، فهذا يعود على شعبه أولاً بالوظائف (أي قدرته على توظيف طاقة العمل وتحويلها الى أموال وأسباب للعيش) وعلى مردودات الربح للبلد ثانيا. وبالتالي يصبح السؤال أعلاه أسهل قليلا وأكثر تحديداً، فيصير: “هل أن اغلاق الحدود بوجه التبادل التجاري، أنسب لبضاعة البلد وأكثر دعماً لانتشارها، أم فتح تلك الحدود هو الأنسب”؟

لو فتحنا التلفزيون أو قرأنا الإعلام العراقي، لوجدنا تأكيداً لضرورة فتح الأسواق، بل تسبيحاً بحمد ذلك الفتح. وليس السبب في ذلك صحة هذا الجواب، بل في حقيقة ان من يقوم على اعلام البلد واقتصاد البلد، جهات تدفع لها رواتبها مقابل ترويجها لاتجاهات مناسبة لمن يدفع، أما الحقيقة فهي اعقد من ذلك قليلا. في الغالب لن يقدم لك المتكلم في الإعلام العراقي او امثاله، اية أدلة على ما يقول، او يكتفي بأدلة غامضة مثل: “أنه الاتجاه الحديث للعالم” و “كل الدول المتقدمة تفعل ذلك”. فحقيقة انه “الاتجاه الحديث” أو ان “الدول المتقدمة تتبعه” لا يثبت أنه الأفضل لكل الدول.

الجواب الصحيح على هذا السؤال (أيهما أفضل للنشاط الاقتصادي لدولة محددة، فتح الأسواق ام اغلاقها؟) غير ممكن بشكل عام. ومن يحاول ان يعطي جواباً عاماً لكل البلدان، فهو مخادع أو جاهل يكرر كلاما سمعه من مخادع. فكل بلد يختلف عن الآخر، وكل زمن وظرف في أي بلد، يختلف عن زمنه وظرفه الآخر، فمتى يكون فتح الأسواق مفيداً لنشاط صناعة وزراعة البلد، ومتى لا يكون؟ إن استطعنا الإجابة عن هذا السؤال، يمكننا عند ذاك ان نقرر إن كان البلد المعني يتوفر على الشروط التي تجعل فتح السوق لصالحه أو العكس.

أول حاجة ضرورية للبضاعة لتبقى وتزدهر، هو وجود من يستهلكها، أي وجود سوق لها. فالسوق العراقية للطماطة مثلا، هي كمية ما يستهلكه العراقيون من الطماطة في العام الواحد.

يمكن لأية دولة ذات سيادة، ان تمنع استيراد البضاعة الاجنبية، او ان تضع تعريفات جمركية عالية عليها. ولنفرض من اجل التبسيط وجود بلدين فقط، ولنفترض انهما العراق وتركيا، ولنفترض ايضاً للتبسيط، أننا نناقش أما فتح الحدود التام او اغلاقها تماما امام البضاعة. كذلك سنفترض للتبسيط ان السوق ثابت الحجم، (وهو ثابت نسبيا) يمثل عدد سكان البلد الراغبين والقادرين على شراء السلعة، وتبسيطات اخرى.

في حالة إغلاق العراق حدوده التجارية امام تركيا، فأن بضاعتنا ستمتلك السيطرة على سوقنا بلا منافسة. لكن تركيا ستعاملنا بالمثل وتغلق أسواقها بوجه بضاعتنا. أي أن بضاعتنا، لن تستطيع ان تخرج خارج حدود البلد واسواقه. وبالتالي فبضاعتنا سيكون لها سوق، لكنه محدود، السوق المحلي فقط.

وإذا اتفقنا مع تركيا وفتحنا الحدود، فستتمكن بضاعتنا من الخروج الى سوق تركيا وتأخذ جزءاً منه، لكن بالمقابل ستدخل البضاعة التركية الى سوقنا وتسلب بضاعتنا جزءاً منه. وهنا يصبح الجواب عن السؤال الرئيسي بسيطاً: إن كان حجم السوق الذي تكسبه بضاعتنا في تركيا أكبر من حجم السوق الذي تفقده في العراق لصالح البضاعة التركية، ففتح الأسواق في صالحنا! وإن كان العكس، وكانت خسارة السوق المحلية أكبر من ربح السوق التركية، فالإغلاق هو الذي في صالحنا!

والآن يكون السؤال: لو فرضنا اننا كنا في حالة غلق الحدود اقتصادياً، فهل لدينا بضاعة عراقية جاهزة لغزو السوق التركي ومنافسة البضاعة التركية واخذ حصة معتبرة فيها؟ أم ان البضاعة التركية “اقوى” وهي التي ستغزو اسواقنا وتزيح بضاعتنا بشكل أكبر؟

هذا الأمر يعتمد كثيراً على مدى التطور الصناعي والزراعي لكلا البلدين. فالتطور في الصناعة والزراعة يتيح انتاج بضاعة أفضل أو بسعر أقل، وبالتالي فسوف تأخذ صناعة وزراعة البلد الأكثر تطوراً، كل السوق للبلدين وتحرم الأخرى من سوقها المحلية بدون مقابل!

لو شبهنا تطور البلد بارتفاع أرضه، والبضاعة بالماء، فليس من الصعب أن نتخيل من ايهما “ستسيل” البضاعة إلى الآخر.

هذا يفترض دراسته من قبل وزارة التجارة في البلدين، لتقدير قوة البضاعة العراقية والتركية المتنافسة، وتقدير حجم السوق الذي ستربحه العراقية من تركيا والتركية من العراق، وتقدير الفائدة والضرر من فتح الأسواق، قبل قرار فتحها! إنها حسابات بسيطة ليس فيها الكثير من العواطف وعبارات المجاملة و “التآخي” وغيرها. كذلك ليس فيها تفاخر بـ “الحداثة” والتشبه بالدول المتطورة او الاختلاف عنها. إنها حسابات مالية بسيطة وواضحة. وقد يتبين لاحقاً أن الحسابات خاطئة بعض الشيء، لكن بشكل عام، ليس صعباً تقدير حركة السوق عند فتح الأسواق وغلقها، وليس هناك بلد لدى حكومته الحد الأدنى من احترام نفسها، تقوم بفتح او غلق أسواقها التجارية بدون حسابات الربح والخسارة هذه.

ماذا نستنتج من هذا ايضاً؟ نستنتج ان الدول النامية حديثة الصناعة والزراعة يجب ان لا تفتح أسواقها لصناعة وزراعة منافسة، لأنها ستخسر الكثير ولن تربح شيئا، وستحرم صناعتها وزراعتها من أسواقها المحلية تماما وبدون بديل او مقابل، أي انها ستقضي عليها!

لماذا إذن تفتح كل الدول المتطورة أسواقها مع بعضها البعض؟ بالضبط لأنها “متطورة” وقادرة على المنافسة فيما بينها. إنها تفتحها لأنها متطورة، وليس أنها تطورت لأنها فتحتها!

ولماذا تصر أميركا والمؤسسات المالية الغربية على كل مستعمراتها وكل الدول التي تسيطر على حكوماتها أن تفتح أسواقها للبضاعة الخارجية وتضع النصوص بهذا الاتجاه في قوانين منظمة التجارة العالمية؟

لأنها ببساطة تطبق المبدأ أعلاه: إنها لا تريد لتلك الدول ان تتطور وتنافسها، بل تريد ان يتاح لها ان تقضي على صناعة وزراعة الدول النامية، لصالح صناعتها وزراعتها هي واستيلاء الأخيرة على كل الأسواق. إن “حماية” البضاعة من خلال غلق الأسواق بالتعرفات الجمركية العالية مثلا، هي الوصفة السحرية الضرورية لتنمية صناعة وليدة، والحكومات الوطنية تحمي صناعة بلدها تماما كما يحمي الاب والأم طفلهما ويعلمانه حتى يشتد عوده قبل ان يلقيا به في العالم لينال نصيبه. ومثلما ينظر باحتقار لمن يلقي بأولاده في العالم دون ان يتكلف بمصاريف دراستهم، فتنتهي حياتهم الى مأساة، يجب ان ينظر الى الحكومات التي تفتح أسواقها قبل نمو صناعتها وزراعتها باحتقار وشبهة، واعتبارها خطر على البلد.

صحيح أن حساب الربح والخسارة أكثر تعقيداً من الأمثلة المبسطة التي ذكرناها، لكن الخط العام يبقى صحيحاً وأساسياً في تلك الحسابات، وإن تلك التعقيدات قد تقلل أو تزيد من هذا العامل او ذاك، دون أن تحيد النتائج عن الخط الرئيس العام، ويمكننا ان نعتمد عليه لتقييم السياسة الاقتصادية لحكوماتنا دون أي تردد.

من هنا يمكننا ان نحكم على الاتفاقيات التي وقعها عبد المهدي لفتح التجارة مع الأردن، وبدون اية دراسة كافية لإدانته ليس فقط بالإهمال او الجهل، فهو ليس كذلك، بل بالعمالة لجهة تدفع به الى تخريب صناعة وزراعة العراق. فأقصى ما فعله عبد المهدي هو ان أرسل رسالة الى اتحاد الصناعات العراقية يسألهم عن البضاعة التي يرون ضرورة منعها، ولم يهتم بما لدى العراق من صناعة في القطاع العام مثلا. كذلك فان عبد المهدي لم يوافق إلا على نسبة ضئيلة من تلك القائمة، وفتح أبواب السوق العراقية للباقي. وإذا تذكرنا ان “البضاعة الأردنية” لن تكون اردنية فقط، بل ان اتفاقاتها مع إسرائيل، ستعني اننا سندخل بضاعة إسرائيلية، نعرف حجم الكارثة التي ستأتي من تطبيق هذا الاتفاق. هذا إضافة الى إمكانية التلاعب بأوراق البضاعة الصينية مثلا لتصبح “اردنية” وتدخل البلاد، وسيكون على البضاعة العراقية ان تنافس بضاعة لا تستطيع ان تنافسها أفضل الصناعات الأوروبية المتطورة! إن توقيع اتفاقات فتح الأسواق العراقية، وبدون اية دراسات لنتائج ذلك الفتح، ولا تقديرات للحجم المتوقع للبضاعة المستوردة مقابل المصدرة، وعدم الاهتمام حتى بجمع الإحصاءات اللازمة لتلك الدراسة، هو اصدار حكم بالإعدام على اية صناعة أو زراعة عراقية، وهذا ما فعله عبد المهدي!

وفي الوقت الذي نكتب فيه هذه السطور، يتجول رئيس الحكومة الحالي، الذي فرضته السفارة الامريكية على ساسة العراق، في الأردن ومن ضمن مهامه “تفعيل” تلك الاتفاقيات القاتلة! ومن الطبيعي ان نشاهد الحماس الشديد للأردن لدفع الحكومة العراقية لتفعيل تلك الاتفاقات، فهي تعلم ان عشرات المليارات من الدولارات ستصب من العراق الى الأردن نتيجتها، وأن وجود حكومات عميلة بشكل مطلق في العراق يجب ان يستغل بأقصى سرعة لتقييده باتفاقيات، احتياطا للمستقبل.

إذن، فالإشارة في حملات الإعلام، والتي يقودها إعلاميو المؤسسات العراقية والمختصون بالاقتصاد في وزارة الكاظمي اليوم، الى حقيقة ان الدول المتطورة تفتح أسواقها، ليست صدفة وليست خطأً تماماً. فهي الوحيدة التي تستطيع ان تفتح أسواقها دون قتل صناعتها، ومع ذلك فهي لا تفتحها بالشكل الذي فتح به عبد المهدي أسواق العراق.

إن هؤلاء الاقتصاديون المحتالون يتحدثون عن الوضع الحالي لتلك الدول، ولم يجرؤوا على القول بأن هذه الدول نمت عن طريق فتح أسواقها، لأن ذلك كذب سهل دحضه تماماً بمراجعة تاريخ تطور تلك الدول.

لقد شبه الاقتصادي “تشانغ” ضغط الدول المتقدمة على الدول النامية من اجل فتح أسواقها، بأن الدول المتقدمة صعدت الى الأعلى باستخدام “سلّم” الحماية الجمركية لبضاعتها، ثم “ركلت” السلم لكيلا تستطيع الدول النامية استخدامه مثلها للصعود وتطوير صناعتها وزراعتها. ووضع “تشانغ” في كتاب اختار له اسماً معبراً جداً هو “ركل السلّم” (متوفر بالعربي) امثلة كثيرة جداً لمختلف البلدان المتطورة حاليا وكيف انها بدأت كدول تمارس الحماية الشديدة لبضاعتها، وانه لم يكن هناك أي شك في ذلك لأي دولة متطورة، إلا احتمال سويسرا وهولندا ولأسباب خاصة جداً. أما القاعدة العامة لمن لا تتوفر له هذه الأسباب الخاصة، فلا طريق له “للصعود” سوى “سلّم” الحماية، كما برهن تاريخ التقدم لكل الدول المتقدمة الأخرى!

Subscribe to صائب خليل

Don’t miss out on the latest issues. Sign up now to get access to the library of members-only issues.
jamie@example.com
Subscribe