ليس كل السنة دواعش ولكن كل الدواعش سنة – الحقائق الظالمة -2
صائب خليل
إنها “حقيقة”، وسنثبت انها ظالمة، وهذه هي الحلقة الثانية من الحقائق الظالمة، وتجد الأولى هنا بعنوان: “الكلمة معلومة وتحشيد – الحقائق الظالمة -1” (1)
“الظلم” هنا هو في الفرق بين الحقيقة الحرفية للعبارة، و”الانطباع” الذي تتركه العبارة في الذاكرة. سنبدأ بالجزء الثاني من العبارة: “كل الدواعش سنة”، ونترك الجزء الثاني لنهاية المقالة حيث نشرحه بمساعدة الرسوم.
“كل الدواعش سنة، “عبارة صحيحة بشكل عام، لكنها كحقيقة موضوعية ليست مهمة بالقدر الذي يتصوره المرء، ولا تصلح للحكم على السنة. فهي تتحدث عن نسبة السنة بين الدواعش، ولا تعطينا فكرة عن نسبة الدواعش بين السنة. (مثلا، القول بأن أعضاء عصابة ما “كلهم من الكوت” لا تخبرنا شيئا مهما عن اهل الكوت) لكن ماذا تترك العبارة من انطباع في الذاكرة؟ لاحظ انها تجمع ثلاث كلمات (كل، دواعش، سنة) في الذهن، ولأن الذاكرة تخزن الكلمات بشكل غير دقيق، فسوف تخلطها مع فكرة “كل السنة دواعش”، ولا يميز الذهن بينهما إلا حين يركز ويدقق، لذلك فإننا نقول أن العبارة حقيقة، لكنها تعطي انطباعا “ظالما” بالنسبة للسنة وكم نسبة الدواعش بينهم!
السؤال المهم إذن: ما هي نسبة الدواعش بين السنة؟
يقفز الكثيرون فور طرح هذا السؤال إلى اخبارك بأنهم “كثر” لأن داعش تستند في “فكرها” إلى المذهب السني! وبغض النظر عن صحة هذا الكلام، فمن الخطأ في المنطق ان تبرهن “كثرة” نسبة من الناس عن طريق إيجاد مبرر لاعتقادك بهذه الكثرة. فالعدد يجب احصاءه، فربما لا يؤمن السنة بما تتصور أنت انهم يؤمنون به. فما هو العدد وماهي هذه النسبة؟
بحثت الأمر طويلا، ووجدت مصادر مختلفة وكثيرة التباين، وسأعتمد احتياطا، على الجهات التي ليس من مصلحتها تخفيض هذا العدد ابدا: الجهات الامريكية الرسمية، وخاصة السي آي أي! (كانت اميركا تريد اقناع شعبها والعراقيين بضرورة إعادة قواتها وان الحرب ستستغرق 30 عاما، ثم جرى تخفيضها الى 3 أعوام!).
قدر تقرير امريكي عدد الدواعش الكلي في سوريا والعراق بعشرة الاف مقاتل فقط! ولكن في أيلول 2014، أي في قمة فترة داعش، أعلنت المخابرات المركزية الامريكية (سي آي أي) مضاعفة تقديرات الرقم ثلاثة اضعاف، وقدرته بين 20 الف و31 الف ونصف (2) وقدر الرقم في العراق بين 12 الى 15 الف.
ما هي نسبة السنة العراقيين بينهم؟ وزير الدفاع العراقي قال ان 80% منهم عراقيين، معتمداً على نسبتهم بين القتلى. ولا شك ان مثل هذا القياس غير دقيق لسبب بسيط، وهو ان الوزير لم يأخذ بنظر الاعتبار أن الأمريكان كانوا يسعون لإنقاذ الأجانب الذين تعبوا في تدريبهم قبل الهجوم، ويتركون المحليين الذين تم تجنيدهم مؤخرا ليقتلوا. لكن لنعتمد كلام الوزير، وسيكون عددهم بين عشرة الاف إلى 12 الف ونصف، ولنقل 11 الف على وجه التقريب. وبما ان عدد السنة (على وجه التقريب أيضا) حوالي 11 مليون، نستنتج من هذا أن نسبة الدواعش الى السنة هي واحد من كل الف شخص! وحتى لو فرضنا ان الرقم كان ضعف المحسوب، فإنهم شخصان من كل الف سني! ولو ضربناها في 10 لحساب الداعمين غير الفعالين لداعش معهم والمؤيدين لها، ستبقى نسبة تافهة جداً. وهذا رغم دعم داعش من قبل اكبر الدول العظمى في العالم بشكل غير مباشر وتخصيص أموال طائلة في خدمة الترويج له ودفع السنة باتجاهه من خلال مجندين يتقمصون الطائفية من الجانبين لتضييق الفرص عليهم. يكفي ان نتذكر أن الذين تركوا ديارهم من السنة بسبب داعش بلغ مليون شخص دون ان يعرفوا الى اين يتجهون!
لماذا تبدو نسبتهم اكبر بكثير، ولماذا كان تأثيرهم بهذا الحجم إذن؟
عدا فعالية التنظيم ودعمه من قبل اكبر الدول العظمى وإرهاب من لا يتماشى معه، ثم دعم المتآمرين معه لاحقا واشراكهم في التكتلات السياسية والتحالفات بعد حصولهم على مقاعد برلمانية بشكل مشبوه، وكون الغالبية الساحقة من السنة التي وقفت ضد داعش، لم تستطع ان تنظم نفسها، ولم تجد الدعم من خارجها كما تجد داعش، فأن هناك إعلاما شديد القوة والذكاء يدفع بالناس لتصديق العكس، أي تصديق ان معظم السنة يدعمون داعش! ومن ضمن ادواته هذه العبارات “الحقيقية الظالمة”.
لقد قلت ان “كل الدواعش سنة” هي عبارة حقيقية بلا شك، لكن صدى الكلمات في الذاكرة مصمم ليعطي انطباعا اكبر بكثير من الدلالة التي تحملها الكلمات، ونعود الآن الى الجزء الأول.
“ليس كل السنة دواعش”، تبدو عبارة بريئة للغاية، بل تبدو تهدف للدفاع عن السنة، لكنها العبارة الأكثر خبثا. إنها تعطي الانطباع أن “هناك جدل” وموضوع مناقشة، في ان يكون “كل السنة دواعش” ام “ليس كلهم”. “ليس كلهم” توحي بوجود نسبة “قليلة” من السنة خارج هذا التعميم. أي ان اغلبية ساحقة من السنة هم من الدواعش. مثل قولنا: “ليس كل الطيور قادرة على الطيران”، يعطينا انطباعا بأن “بعض” الطيور فقط هي غير القادرة على الطيران، وان الأغلبية الساحقة، تقدر على الطيران، وهو صحيح. في هذه العبارة لا يوجد تناقض بين الحقيقة التي تنقلها والإيحاء الذي توحي به، ولا نشعر بوجود مشكلة بين ما تعطينا العبارة إياه من انطباع، وما نعرفه عن الطيور.
لكن لو جاء أحدهم ليقول لنا: “ليس كل العراقيين ذوي عيون زرقاء”، لشعرنا فوراً بخلل ما في العبارة، رغم انها لا تنقل سوى “الحقيقة”! ولكنا اجبناه فورا، وربما بسخرية: “طبعا ليس كل العراقيين ذوي عيون زرقاء، فنادرا ما نقابل عراقيا ذو عيون زرقاء.. الأغلبية الساحقة ليست كذلك!”
ما اعتراضنا على تلك العبارة رغم انها لا تحمل سوى “الحقيقة”؟ اعتراضنا انها تجعل “كون العراقيين كلهم ذوي عيون زرقاء” مسألة مطروحة للنقاش! ولو كانت الغالبية الساحقة من العراقيين ذوي عيون زرقاء بالفعل، بحيث يكون الشك بوجود من له عيون غير زرقاء بيهم معقولا، لكان الأمر طبيعي! لكن هذا “الشك” الذي توحي به العبارة، غير وارد في هذه الحالة، لأننا نعرف الحقيقة الفعلية، ولذلك نرفض ما توحي به العبارة ونسخر منها.
لكن ماذا لو طرحت العبارة على شخص من الاسكيمو لا يعرف العراقيين؟ طبيعي انه لن يحتج عليها لأنه ليس لديه فكرة عن العراقيين لتتناقض مع انطباعها، لكنه سيستنتج بلا شك أن الغالبية الساحقة من العراقيين هم ذوو عيون زرق!
نفس الاستنتاج سيصل إلى الشيعي البعيد عن مدن السنة ولا يدري شيئا عن مواقف سكانها، حين تطرح عليه عبارة: “ليس كل السنة دواعش”. سيستنتج أن المقصود: “ربما هناك “بضعة” سنة ليسوا دواعشا”! أي ان غالبيتهم من الدواعش بالتأكيد!
لقد رسمت في الشكل المرفق دائرة مساحتها الف مربع صغير، لأوضح نسبة الدواعش بين السنة (يمكنك ان تختلف مع ارقام السي آي أي عشرة مرات دون ان يغير هذا شيئا في منطق الموضوع)، ويبين الرسم الايسر حقيقة النسبة، والأيمن الانطباع الذي تعطيه عبارة “ليس كل السنة دواعش”!
وهكذا تكون العبارة قد أدت دورها في تخريب اللاشعور، وبشكل رائع وممتاز، ودون ان يشعر المتلقي بأنه خدع، ودون ان يستطيع أحد ان يحاكم قائلها ويتهمه بالكذب حتى ان انتبه الى القصد. فهو لم يقل إلا “الحقيقة”، بل اكثر من ذلك، لبس لباس الدفاع عن السنة أيضا!
وهكذا تكونت من عبارتين “حقيقيتين”، جملة شديدة الظلم فيما تعطيه من انطباع: “ليس كل السنة دواعش، لكن كل الدواعش سنة”! والعبارة تبدو جميلة وعادلة بحيث ان أفضل المدافعين عن السنة بين الشيعة، صار يتبناها ويروجها، وهو مقتنع بأنه يعطي السنة حقهم وانها كلمة الفصل والحق، فصار هؤلاء جزءا من ترويج الانطباع الظالم والخاطئ ضد السنة وكنتيجة، ضد وحدة العراق! إنه لا يختلف في ظلمه عن ان تقول عن رجل كريم بأنه “ليس حقيرا جداً”، فيفهم مستمعك انه “ليس حقيرا جداً” ولكنه “حقير” على الأقل، وان موضوع النقاش ينحصر في الـ “جداً”، ولن يخطر بباله ان الرجل قد يكون “كريما”!
لماذا مهم ان نعرف أن بين السنة من يقف معنا ضد داعش؟ لأننا ان لم نعرف فسيجد هؤلاء انفسهم مضطرين لقبول الخيار الوحيد المتروك امامهم، وهو الانضمام الفعلي لداعش! ومع الوقت فسوف يستسلم معظم هؤلاء لذلك الضغط. وعندها سيكون الوضع اصعب علينا مئات المرات، وسيستحيل الحفاظ على العراق، وهذا ما يريدونه بالضبط! لذلك فما يجب علينا القيام به هو العمل بكل قوة على معرفة الأصدقاء بين السنة ودعمهم بكل قوة ومحاسبة الحكومة على عدم دعمهم، حيث انهم متروكون عمداً اليوم للإرهاب الداعشي لتحقيق هذا الغرض. وفي هذه الاثناء يستمر الكذب الإعلامي في تشويه الحقائق لإقناعنا بقلتهم أو حتى عدم وجودهم اصلاً! لذا لا غرابة أن تجد منشورا يخالف الحقيقة بشكل صلف فيقول “كل السنة دواعش” دون تقديم أدلة، سيمر دون ان يجد المستمعون خللا فيه ويحصل على موافقة اكثر الناس امانةً. فالانطباع الذي تركته مثل هذه العبارات بين الناس، هو ان 95% من السنة دواعش، وجعلهم 100% لن يفرق كثيرا. وهكذا نهزم قبل ان نهزم!
(1) صائب خليل: الكلمة معلومة وتحشيد – الحقائق الظالمة -1
(2) How foreign fighters are swelling ISIS ranks in startling numbers
https://edition.cnn.com/2014/09/12/world/meast/isis-numbers/index.html?iref=allsearch