كيف تقف بوجه قوة أكبر منك؟ 1- مبدأ الشطرنج الثلاثي
صائب خليل
كيف يحمي كلب الراعي قطيع الغنم، من الذئب؟ يوما سألت أبي:
– بابا هل الكلب اقوى من الذئب؟
– لا بابا.. الذئب اقوى بكثير.
– إذن كيف يحمي كلب واحد قطيعا من الخراف من الذئب؟
– الذئب يستطيع ان يقتل الكلب بسهولة، لكنه يخشى ان يعضه الكلب ويجرحه قبل ان يستطيع قتله. فالذئب يعلم ان جماعته سيقتلونه ويأكلونه إن رأوه مجروحا.
لقد حفظت “الدهشة”، هذه المحادثة في ذاكرتي لنصف قرن، لكني أتساءل اليوم: كيف نصف “الاستراتيجية” التي يتبعها هذا الكلب في موقفه الشجاع والمحسوب في نفس الوقت؟
.
تعرفون جميعا لعبة الشطرنج، لكن ربما لم تسمعوا بـ “لعبة الشطرنج الثلاثية” حيث يتصارع ثلاثة لاعبون، يحاول كل منهم أن يقضي على رسيليه. فما الذي يضيفه وجود اللاعب الثالث من تأثير على الصراع بين الطرفين الآخرين؟ ما هو الفرق الاستراتيجي للعب الذي يجب ان نبقيه في بالنا عندما ننتقل من لعبة الشطرنج الاعتيادية إلى الثلاثية؟
في لعبة الشطرنج المعتادة نحافظ على قطعنا سالمة قدر الإمكان ونضرب قطع رسيلنا. ونحن نقبل بسرور أن نضحي بقطعة من قطعنا مقابل قطعة للرسيل، إن كانت قطعة الرسيل اقوى. فأنا كلاعب الشطرنج يسعدني أن أضحي بفيل (قيمته 3 نقاط) إن كان ذلك سيتيح لي أن “أكل” رخ رسيلي (قيمته 5 نقاط)، لأني سأخرج متفوقا بفارق نقطتين.
لكن وجود لاعب ثالث، سيخرب هذا المبدأ الأساسي، لأن اللاعب الثالث “المتفرج” الذي لم يمس جيشه بأذى، صار بفضل هذه المضاربة، اقوى منا نحن الاثنين: صار أقوى مني بثلاث نقاط لأن جيشي نقص فيلاً، وأقوى من رسيلنا الآخر الذي خسر رخاً، بخمس نقاط!
.
ما هي الاستراتيجية السليمة إذن في الشطرنج الثلاثي؟: أن تترك اللاعبين الآخرين يتقاتلان وأن تكون “اللاعب المتفرج”! فمهما كانت نتيجة الصراع فستكون انت الرابح الحقيقي! الجميل في هذه اللعبة أنها الأكثر شبها بالحياة، حيث يشمل الصراع في الحياة أكثر من طرفين دائما. ولا شك انكم ستكتشفون سريعا، امثلة تاريخية عديدة لتطبيق مثل هذه القاعدة في السياسة الدولية. فصعود الولايات المتحدة إلى قمة السيادة في العالم قد تم بـ “دستين” من الشطرنج الثلاثي، كان الدست الأول هو الحرب العالمية الأولى، والدست الثاني هو الحرب العالمية الثانية. وفي كلا الدستين، تركت الولايات المتحدة الأطراف الأوروبية تطحن بعضها البعض، بل قامت بدعم الطرفين احياناً، ولم تدخل أي من الحربين إلا بعد ان تم ذلك وصار ضروريا لها ان تدخل لتكون مشاركة مباشرة في المكاسب، بأقل الخسائر الممكنة.
.
لقد تصور الحلفاء، أنهم ربحوا الحربين، لأنهم انتصروا على المانيا. ولو كانوا يلعبون الشطرنج الاعتيادي لكان تصورهم صحيحاً، لكنهم لم ينتبهوا لوجود “اللاعب الثالث” المتفرج، الذي كان يضحك في سره من ذلك الانتصار الفارغ. فقد خرج لوحده بجيش سليم واقتصاد سليم، وكان يملك أكثر من نصف المنتوج الصناعي العالمي واكثر من نصف رأس المال في العالم، وفرض شروطه على الجميع بمن فيهم “حلفاؤه” فاجبر اكبرهم على التخلي له عن نصف حصصه النفطية الأجنبية والآخر عنها كلها تقريبا، إضافة إلى شروط أخرى على المهزومين و “المنتصرين”، جعلت منه سيد العالم بلا منازع.
.
وقد نجحت الولايات المتحدة في ان تكون “اللاعب الثالث”- المتفرج المنتصر- في مرات أخرى عديدة حين استفادت من الخلاف الصيني السوفيتي فيما بعد. ولم يقتصر ذلك على منافسيها في السلطة على العالم بل استعملت ذات السياسة حين دعمت صدام حينا وإيران حينا آخر، لإدامة الحرب بينهما أطول فترة ممكنة وإنزال اشد الضرر بكليهما.
.
“اللاعب” النبيه، لا يكتفي إذن بحساب مكاسبه وخسائره أمام الطرف المقابل فقط، بل يراقب تأثيرها على توازن قوته امام اللاعبين الآخرين غير المشاركين في الصراع! وهذا يدفعه إلى التزام استراتيجية “تجنب الصراع” قدر الإمكان، حتى مع من هو أضعف منه.
.
كيف يمكن للاعب الأضعف ان يستفيد من هذه الحقائق؟ هذه هي النقطة المركزية لهذه المقالة: أن اللاعب الأضعف حين يدرك أن الاستراتيجية الصحيحة للأقوى هي “تجنب الصراع”، فإنه يستطيع ان يستغل تلك الورقة لصالحه في دفاعه عن مصالحه!
تلك الورقة، هي ما يستخدمه كلب الراعي حين يواجه الذئب ويمنعه من الهجوم على الخراف. الذئب يكشر عن انيابه مهدداً، لكن الكلب لا يرتعب بل يرد بالتكشير عن انيابه أيضاً، ولسان حاله يقول: “أعلم أن انيابك اشد وأنك قادر على قتلي، لكن أنظر أيضاً إلى انيابي فهي تكفي لإصابتك بجرح. انت تعلم جيدا أن قتلي لا يعني انتصارك إن جرحت. لا مصلحة لك في هذا، وخير لك ان “تتجنب الصراع” وتذهب جائعا من ان تذهب جريحاً”.
.
إنها محادثة يفهمها الذئب تماما، كما يفهمها الكلب، ويفهم كل منهما أن الآخر يفهمها، فالعلاقة بينهما تمتد لملايين السنين من التجارب والتفاهم. لذلك فغالباً ما تنتهي المواجهة بانسحاب الذئب، مؤجلا حلمه بالطعام إلى فرصة أخرى مع قطيع راع ليس لديه كلب يفهم اللعبة.
في المرة القادمة عندما ترى حيوانا أكبر ينسحب أمام حيوان أصغر، لا تتصور دائما ان الأكبر كان جباناً. إنه يفكر بالمدى البعيد ويعمل باستراتيجية “تجنب الصراع”. والأصغر يدرك ذلك ويستغله. إن كل قط محاصر يكشر عن انيابه ويقلص ظهره أمام الكلب الذي يحاصره، إنما يفعل ذلك بالضبط.
إنها أيضا ذات المحاورة بين أميركا وكوريا الشمالية اليوم، والتي قد نتعجب من جرأتها على التحدي، كما نتعجب من تردد اميركا بضربها. لكن كل من أميركا وكوريا الشمالية تفهمان لغة الشطرنج الثلاثي حيث تقول الأخيرة لها كما قال الكلب للذئب: “تستطيعون إفناءنا.. لكننا سنصيبكم قبل ذلك بجرح سيكلفكم كثيراً ويخفض فرصكم لسيادة العالم. ستقضون علينا، لكنكم ستكونون أضعف أمام الصين وروسيا وربما أوروبا واليابان، فماذا استفدتم؟”. إنه ببساطة “الردع النووي” الذي جاعت كوريا من أجل الحصول عليه وتحملت إيران نجاد الحصار من أجله، لأنه يقفز بخسائر “المنتصر” الى رقم كبير يفوق اية مكاسب محتملة من تلك الحرب. ولهذا السبب بالذات تعمل اميركا وإسرائيل المستحيل لكيلا يتاح لدولة عربية او إسلامية أو أية دولة تنتهج نهجاً مستقلا، أن تحصل على السلاح النووي. ليس خشية ان تستعمله هذه الدولة في هجوم عليهما، فهما يستطيعان القضاء عليها فوراً، إنما خشية أن يستخدم للردع بالتأثير على حسابات الربح والخسارة. فأميركا وإسرائيل إنما يهدفان إلى حماية “حريتهما في العدوان” على اية دولة قد يرغبان في احتلالها او اخضاعها مستقبلا.
.
كيف نفسر دخول أميركا بعض الحروب إذن؟ في الشطرنج لا تستطيع إضافة قطع الرسيل التي تضربها إلى قطعك، أما في الحروب فهذا ممكن، لذلك يمكن ان تكون الحروب “مربحة” للمنتصر، بشرط إن يكون الفارق بين المتصارعين كبيرا جداً. وتساؤل القوي الذي يفكر أن يبدأ حرباً، ليس “هل سأنتصر في الحرب أم لا” وإنما هو: “هل سأربح شيئا من هذه الحرب أم اخسر؟”.
وفي الوقت الذي كانت استراتيجية الشطرنج الثلاثي دائما، هي “تجنب الصراع” فأن استراتيجية الحياة هي “تجنب الصراع مالم يضف شيئا إلى قوتي”. وهذا هو بالضبط ما يدل الجانب الأضعف، على استراتيجيته المناسبة. فالأضعف حين يعي تساؤل الأقوى وما يخشاه، فسوف يصحح السؤال الخطأ الشائع: “هل أستطيع الانتصار عليه؟” وهو سؤال تعجيزي لا يؤدي إلا الى الاستسلام، ويتحول إلى السؤال الصحيح: “هل أستطيع أن اجعل خسائره أكبر من أرباحه؟”. وهي مهمة أبسط كثيراً من الانتصار على القوي. فكل ما على الضعيف ليردع القوي، هو ان يسعى لجعل محصوله من الحرب سالباً.
.
يبدأ المدافع بدراسة ما ينتظره العدو من مكاسب من الاعتداء عليه، ويبحث عن الطرق الممكنة لإلغائها أو لتقليلها. ثم دراسة ما يمكنه أن يسبب للمعتدي من خسائر، وطرق زيادتها، وهكذا حتى يجد الخطة التي تؤمن له زيادة خسائر المعتدي على مكاسبه. وبعد ذلك عليه ان يقنع هذا القوي، بأنه (أي الضعيف) ينوي بالفعل الدفاع عن نفسه وعن مصالحه، وأن خسائر القوي في هذا الصراع ستكون أكثر مما سيكسب، وبالتالي فمن الأفضل له أن يترك الصراع ويذهب!
هكذا بدأ غاندي صراعه ضد الاحتلال الإنكليزي بالطلب من الهنود أن يمتنعوا عن شراء الاقمشة الإنكليزية وأن ينسجوا ملابسهم بأنفسهم، وقام بنفسه بنسج ملابسه ليكون لهم قدوة! فاقتدى الهنود بالملايين به، وعانت صناعة النسيج خسائر كبيرة، وقلل من دوافعهم لإبقاء الاحتلال. ثم بعد ذلك كانت التظاهرات وحدثت الاشتباكات وسقط الضحايا، وأخيراً حسب الإنكليز أن خسائرهم بدأت تزيد عن مكاسبهم، فانسحبوا وتحررت الهند.
.
طبيعي أن الجانب الأقوى لا يريد أن يرى الجانب الأضعف هذه الاستراتيجية الفعالة، لذلك فهو يسعى لتوجيهه نحو السؤال الخطأ المؤدي الى الاستسلام، وهو يستخدم إعلامه من أجل ذلك. فعندما يئس أحد أبواق الاحتلال الأمريكي للعراق، من محاولاته بإقناع العراقيين بأن اميركا ستجعلهم ينافسون المانيا واليابان، قام بتحويل خطابه إلى الخط التالي: “صحيح أن أميركا ليست موضع ثقة، لكن هل نستطيع أن نهزم اميركا؟ بما أن هذا مستحيل، فلا بد لنا من صداقتها بدلا من أن نتعرض للدمار التام” (يقصد “الاستسلام لها”، فالصداقة لا علاقة لها بالتفوق). وهو هنا يضع العراقيين أمام السؤال الخطأ والخيارات الخطأ. السؤال الخطأ: “هل نستطيع ان نهزم أميركا؟” والذي يجاب بالنفي بالتأكيد، فليس هناك من يتخيل الجيش العراقي وهو يدخل واشنطن ويحتلها!
لكنه سؤال خبيث، طرح بدلا من السؤال الصحيح: “هل نستطيع أن نجعل احتلالها يكلفها أكثر مما تربح منه؟” وهو أمر أسهل كثيرا وممكن بالتأكيد لأي شعب، إن توفرت فيه الإرادة. فالقضية من الجانب الأمريكي ليست قضية حياة او موت لتقرر ان تحاربنا وتسبب “الدمار الشامل”، بل قضية حساب.
فإسرائيل كانت قادرة من الناحية النظرية أن “تنتصر” في حرب 2006 أمام حزب الله وتسبب له “الدمار الشامل” بقنبلة ذرية! لكن المقاومة كانت تعلم، وإسرائيل تعلم، وتعلم ان المقاومة تعلم، أن ذلك “الدمار الشامل” يكلفها أكثر مما تربح، ويعني هزيمة لها على المدى البعيد، وبالتالي فهو سلاح غير وارد ولا حاجة للمقاومة ان تخشاه. وبنفس الطريقة خسرت أميركا حرب فيتنام دون ان تستخدم تلك القنبلة أيضا، ولنفس السبب، رغم ان بعض الأصوات الأمريكية المجنونة كانت تدعو إلى ذلك. ففي الحالتين كان المدافع الأضعف واعياً لحسابات الصراع، وله الجرأة والاستعداد لتقديم التضحية اللازمة للثبات الذي تتطلبه الخطة الصحيحة.
.
كتوضيح أخير قبل نهاية المقالة، أقول إن توزيع الأدوار بالنسبة لنا ولخصومنا وللطرف الثالث هو كما يلي: اللاعب الأول هو نحن، أي شعب يتعرض لعدوان ويريد الدفاع عن بلده، واللاعب الثاني هو أميركا أو إسرائيل (وهما واحد) وهو اللاعب القوي المعتدي، أما اللاعب الثالث هنا، فهو ليس إيران أو تركيا أو السعودية كما قد يختلط على البعض، بل روسيا والصين وأوروبا واليابان! إنه “اللاعب الثالث من وجهة نظر أميركا” وليس من وجهة نظرنا! نحن مجبرين على الصراع لأننا نتعرض للاعتداء، ولا نستطيع أن نتركه ونصبح “اللاعب الثالث” المنتصر. ما أردت التنبيه إليه هو أن الصراع من وجهة نظر المعتدي، ليس بيننا وبينه فقط، بل يجب عليه ان يأخذ وجود “اللاعب الثالث” بنظر الاعتبار حين يعتدي علينا، وأن يحسب تأثير صراعه معنا، على توازن قوته مع هذا اللاعب الثالث، وهو ما يحدد من خياراته كثيراً. فوجود هذا اللاعب الثالث هو في صالحنا بالتأكيد. فلو كانت لعبة شطرنج ثنائية لاستحال علينا أن نحقق أي شيء أو أن نحلم بانتصار. لكن وجود روسيا والصين وأوروبا، حتى لو لم تتدخل في الصراع، يجعل اللعبة ثلاثية اللاعبين وتفرض على المعتدي القوي، شروطا خاصة تحدده كثيرا. ونحن بوعينا لهذه الحقيقة، حقيقة وجود لاعب ثالث بالنسبة للمعتدي، نستطيع أن نتحداه رغم تفوقه، وأن نأمل بـ “الانتصار” عليه، ليس بمعنى دحره واحتلال بلاده، بل بمعنى إجباره على التخلي عن عدوانه، من خلال جعل هذا العدوان أكثر كلفة عليه من فائدته له.
.
فعندما يتحدث اللبنانيون عن “هزيمة إسرائيل” أو يتحدث الفيتناميون أو الإيرانيون عن “هزيمة اميركا”، فهو ليس خطاباً “عنتريا” كما يحلو للبعض ان يصفه، بل استراتيجية محسوبة بدقة، تقصد إجبار المعتدي على التخلي عن عدوانه، لا أكثر. ولو راجعنا كل حروب التحرر والثورات على الاحتلال الأجنبي، لوجدنا انها كانت تطبيقاً لهذه القاعدة.
.
لذلك فعلينا أولا وقبل كل شيء، ان نجعل شعبنا يدرك طبيعة الصراع هذه بينه وبين خصمه العملاق، ثم دراسة دوافع ومكاسب الأمريكان من إبقاء قواتهم في البلد، ثم دراسة الطرق التي يمكننا من خلالها جعل كلفة ذلك البقاء أكبر من مكاسبه، وأخيراً أن نقنع الأمريكان، بأية طريقة كانت، بأننا قادرون ومصممون على جعل ميزان خسائرهم أكبر من مكاسبهم.
.
ماهي تلك المكاسب التي يجب تخفيضها والخسائر التي يجب علينا زيادتها؟ سنفكر بهذا الأمر حتى الحلقة القادمة، وندعوكم للتفكير معنا والكتابة والنشر والمتابعة، حتى يتخلص هذا البلد الكريم من هذا الفك القاتل وينسحبوا. لقد فعلنا ذلك حين اضطررناهم لسحب قواتهم في المرة الأولى، ولا يوجد ما يمنع أن تكون الثانية مثلها وأفضل، لكي يخطو البلد خطوته المباركة الأولى نحو الحياة.
صائب خليل ـ 10 أيلول 2017