كم نسبة من يؤيد التطبيع في الخليج؟ الإحصاءات وتحليلها
صائب خليل
نحن نعي محيطنا الصغير بحواسنا، لكن وعينا لمحيطنا الكبير يأتي حصرا من وسائل الإعلام، ومن يسيطر على وسائل الاعلام، يسيطر على وعينا بمحيطنا الكبير، وعينا بكل ما هو ابعد من الحي الذي نسكن فيه.
ومن الأشياء التي سلمتها الشعوب العربية الى اعدائها بسهولة لقلة إدراك خطورتها، وسائل اعلامها، فسيطر اعداؤها على وعيها بوطنها وشعبها وحتى مدينتها، فلم تعد تدري ما الذي يحصل حقا في أوطانها إلا بما يسمح لها اعداءها ان يعلموا، فصرنا “عميانا” بمعنى ما.
لكن إدراك هذه الحقيقة هو خطوة كبيرة الى الأمام، فنحن “نعلم اننا لا نعلم” وهذا يخبرنا ان علينا ان نراجع ما نعرفه من حقائق عن وطننا وشعبنا وتوزيع القوى فيه، وان نتحسس طريقنا لمعرفة أوثق.
وبضوء هذا الفهم نسأل الأسئلة التي تقلقنا اليوم والتي نريد من خلالها ان نعرف حجم قوتنا وقوة عدونا داخل ارضنا: كم نسبة من يؤيد التطبيع في الخليج؟ كم هي النسبة الحقيقية لمؤيديها في كل بلد عربي؟
لو اعتمدنا على ما يصلنا من نتائج تطبيع ومن ردود الأفعال على الاستفتاءات على النت وما تكتبه الصحف وتقوله الفضائيات وتعليقات وسائل التواصل الاجتماعي، فسيبدو الوضع خطيرا جدا، بل خاسراً. لكن مع علمنا بأن من يمتلك كل هذه الوسائل، يريد بالفعل ان يوصلنا الى هذا الاستنتاج، تبدأ شكوكنا ومراجعتنا لهذه الانطباعات.
كمثال بسيط، نقرأ أن رئيس نادي مدينة عيسى البحريني قال: “اعلان العلاقات مع اسرائيل خطوة تاريخية”. لكننا نقرأ تعليقا يستغرب التصريح لأن الأندية الرياضية “محظور عليها التدخل في السياسة”!
ومن هنا نستنتج ان علينا ان لا نعتبر هذا مؤشرا على حجم دعم التطبيع، لأن الرافضين ممنوعين من الكلام.
أين نجد الحقيقة إذن؟
بما اننا لا نملك اية وسائل إعلام، ولا مراكز بحث وإحصاء علينا ان نتحسس طريقنا إلى الحقيقة في ظلام الوسائل المعادية، وفي التاريخ، ونستعين بالمنطق، وان نلتقط الإشارات المعارضة ونحللها، دون ان ننسى اننا قد نقع في التحيز لما نتمناه من “حقائق”. ولنبدأ بإحصاءات الأعداء أنفسهم.
لكننا قبل ان نفعل ذلك علينا ان نتسلح أولاً بالحذر، بقراءة كتاب قيم مثل “كيف تكذب بمساعدة الإحصاءات” الذي حذر فيه مؤلفه داريل هوف، من الحيل الإحصائية منذ الخمسينات من القرن الماضي، وأكد على ضرورة قراءة الأرقام والاسئلة بانتباه شديد وحذر.(1)
لقد استمعت إلى نسخة صوتية من هذا الكتاب، وستكون عوناً أكيدا لنا في هذه المقالة، فلنبدأ إذن:
يكتب ديفيد بولوك في معهد واشنطن (والأثنان معروفان بميولهما الصهيونية القوية) في عنوان لمقالة له أن “20 في المائة فقط من الإماراتيين يرغبون في إقامة علاقات مع إسرائيل”(2)
ورغم أن الـ 20% اقلية صغيرة، يفترض ان تطمئننا ان غالبية ساحقة من الإماراتيين ضد التطبيع، إلا أن هناك ما هو أكثر، حتى لو فرضنا ان الأرقام تم نقلها بأمانة، وهو أمر مستبعد. وحين نقرأ داخل المقالة نكتشف مراوغتين لتحريف الأرقام. فنجد الجملة: فلا يوافق نحو 80 في المائة من الإماراتيين على مقولة “أن من يرغب من الشعب في أن تربطه علاقات عمل أو روابط رياضية مع الإسرائيليين يجب أن يُسمح له بذلك”.
والمراوغة الأولى المخفية بعناية هي أن 80% يعارضون لا تعني ان 20% موافقون! بل يشترك في هذا الرقم من يرفض الرد او ليس له موقف من السؤال.
أما المراوغة الثانية فهي في طريقة طرح السؤال: أن يسمح لمن تربطه حاجة معينة بمؤسسة إسرائيلية.. لا تساوي “يرغب في إقامة علاقات مع إسرائيل”! الأولى تعني انه لن يعترض في هذه الحالة لكنه قد لا يكون نفسه راغبا في تلك العلاقة ولا حتى مؤيدا لها.
.ستنتج من هذا أن النسبة اقل من 20%، وإنها من الانخفاض بحيث استدعت كل هذه الألاعيب لتزويرها إلى 20%، ولعلها لا تزيد عن 5% لو نفذ الإحصاء ونقل بأمانة.
وفي نفس المقالة نجد أن 12% فقط يرون أن خطة ترمب للسلام “قد” تترك “أثرًا” إيجابيًا على المنطقة! فكيف لا يثق إلا 12% بخطة أمريكية ويؤيد 20% العلاقة مع إسرائيل؟ ثم لاحظ الكلمات “قد تترك اثراً إيجابيا” وليس “له ثقة بنتائجها” مثلا.
بقية المقالة وما نقلته عن وسائل الاعلام (مثل تردد وصدمة الإعلام السعودي من تطبيع الإمارات)، تؤشر سلامة ما ذهبنا اليه.
وفي مقالة أخرى لنفس الكاتب (3)
يقول: تتفق نسبة 9 في المائة فقط من السعوديين على أن “من يرغب في مزاولة الأعمال أو إقامة علاقات رياضية مع الإسرائيليين يجب السماح له بذلك”.
ولنلاحظ مرة أخرى ان هذه الـ 9% لم تقل انها تريد تطبيعا مع إسرائيل او ترغب به، بل انها لن تعارض افرادا يحتاجون الى تلك العلاقة، وهذا مختلف كثيراً.
ويكتب جورجيو كافيرو في مقالة بعنوان: “لهذه الأسباب تتردد السعودية في التطبيع الفوري مع إسرائيل” (4) أنه رغم ان السلطات السعودية راغبة جدا بمساعدة ترمب في الانتخابات، إلا انها ترى “مثل هذه الخطوة (..) ستكون محفوفة بالمخاطر” ويضيف: “لدى السلطات السعودية سبب للخوف من الاحتجاجات الجماهيرية ضد التطبيع.”، مستشهدا بردود أفعال الساسة السعوديين الحذرة في موقفها من التطبيع الإماراتي، ومن قلق السعودية الشديد للمزيد من تراجع عدد من يراها زعيمة للعالم الإسلامي.
ويعزو الكاتب جرأة حكومة الامارات إلى انه “بلد صغير … يعتبر دولة بوليسية بها أنظمة مراقبة متطورة في كل مكان”.
من هذه الحقائق ومن هذا التحليل نستنتج ان الكاتب يرى أن عملية التطبيع تجري من قبل الحكومات الخليجية، ليس لأنها تملك أي دعم شعبي له قيمة، بل من قدرتها على ضبط شعبها بالقوة البوليسية والمراقبة.
إن ضآلة نسبة من يؤيد التطبيع من عرب الخليج، وإن كان أمراً مطمئناً نسبيا، إلا انه لا يعني ان علينا ان نعتبر الخطر وهمياً، فكثيرا ما فرض التطبيع والإذلال على الشعب بمساعدة اقلية ضئيلة منه، وقد اكتشفنا في تظاهرات الربيع العربي، ان الشعب المصري بشكل شبه كامل مستاء وممتعض ويشعر بالعار من تطبيع ساسته مع إسرائيل، لكن مصر مازالت دولة في الخندق الإسرائيلي بكل المقاييس، رغم كل شيء.
ما أردت قوله من هذه المقالة أنها معلومات مفيدة للصراع، لكنها لا تكفي للاطمئنان الى الفوز بذلك الصراع. وسوف الحق هذه المقالة بأخرى عن مواقف العرب عموما من إسرائيل والتطبيع.
(1) How-Lie-Statistics-Darrell-Huff
(3) الشعب السعودي يختلف على بعض السياسات الخارجية الرسمية
(4) https://natourcenters.com/ريسبونسيبل-ستيت-كرافت-جورجيو-كافيرو/