سخف فكرة "وحدة الاديان" ومراوغات تمريرها وخطرها
صائب خليل
يجب ان نميز بين “التعايش السلمي” بين الاديان وبين “وحدة الاديان”، فلا يجب ان يفهم رفض الأخيرة بأنه دعوة للحرب بين الأديان.
ومفهوم “وحدة الاديان” قائم على الاحتيال والتلاعب لا أكثر، وهو ما يكشف ان وراءه تآمر يهدف لغرض محدد.
ورغم اني لست رجل دين ولا حتى شخص متدين، فأن ما اعرفه يكفي لفضح الخدعة. ولنأخذ مثلا بسيطا عن هذه “الوحدة”، ولنسأل ابسط الأسئلة واكثرها جذرية: من هو المسيح في هذه “الوحدة”؟
هل هو “نبي” كما يقول الإسلام؟ أم هو ابن الله، كما تقول الكاثوليكية؟ أم انه رجل محتال، كما تقول اليهودية؟ من الذي سيتنازل للآخر عن تعريف المسيح؟
اصحاب الشأن، المسيحيون، لا يستطيعون تقديم التنازل عن صفة ابن الرب الذي ضحى بنفسه من اجل تخليص البشرية من آثامها، وإلا انهار بناء الكنيسة كله.
والإسلام لا يستطيع تقديم مثل هذا التنازل للمسيحيين واعتبار المسيح ابن الله، لأن الله “لم يلد ولم يولد”!
أما اليهودية فلا تستطيع حتى تبرئته من الاحتيال واعتباره رجل اعتيادي! ذلك ان المسيح شخصية يهودية على اليهود انتظار ظهورها لتخلصهم. فإن ظهرت توجب اتباعها، وفق نصوصهم نفسها! فإن كان عيسى هو المسيح بالفعل وليس شخصا محتالا انتحل صفته، توجب التحاق كل اليهود بالمسيحية! لذلك فالاعتراف اليهودي المسيح كأي شيء غير ان يكون دجالا، يعني القضاء على الدين اليهودي!
فالمنطق يقول بأن اليهود مجبرين على اعتبار المسيحيين في احسن الاحوال، اشخاص مخدوعين يتبعون دجالا، وعلى المسيحيين ان يعتبروا اليهود خارجين عن الدين اليهودي لأنهم لم يتبعوا المخلص الذي انتظروه. ولا يصعب تحديد اعتراضات المسلمين على المسيحيين واليهود أيضا.
وحتى ان عدنا الى تعريف النبي إبراهيم نفسه فلن تستطيع هذه الوحدة الاتفاق على شيء دون تغيير نصوص الإسلام على الأقل، لأن الإسلام يقول انه “ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً”!
فكيف يمكن تكوين “وحدة” دون ان تضع لنفسها تعريفا مشتركاً للأشياء الأساسية؟
إذن فكرة “وحدة الأديان” سخيفة بوضوح منذ اول نظرة عليها. وهنا يأتي السؤال المهم: لماذا هذا الاهتمام بفكرة سخيفة والترويج لها؟ لو كانت الفكرة مؤسسة بشكل جيد، لوجدنا تفسير التساؤل في ذلك التأسيس. أما وهي تفتقر الى الأساس، فعلينا ان نبحث عن سر شيوعها بهذا الشكل.
لا شك ان جهة قادرة، تبذل من اجلها ما يكفي من المال والجهد والضغط لترويجها رغم سخفها، وبالتالي لا بد أن يكون وراءها هدف مهم ومحدد يخدم غرضا لجهة قوية.
اين نرى تلك القوة وذلك الضغط؟ الانتشار الاعلامي الكبير للفكرة، وورودها على السنة اشهر الساسة ومن بينهم الرئيس السابق للولايات المتحدة، والتركيز الاعلامي الهائل عليها، لا تترك مجالا للشك بقوة من يدفع بها. أما الضغط فيمكننا ان نراه بوضوح من خلال قبول الفكرة او التماهي معها لدى بعض الرموز الاسلامية المدعية الالتزام بالدين، والتي تقوم قوتها على ادعائها ذاك.
ومن اسرع من فعل ذلك حسب متابعتي، السيد مقتدى الصدر، والذي اصدر امس تغريدة انتشرت في تويتر، جاء فيها أن “وحدة الاديان” لا تتناقض مع فكرة ان الدين عند الله الإسلام! وغريب ان يسمح شخص مثله بمثل هذا البيان، إن كان يدرك أن أية “وحدة” كانت، سوف تختلف بالتأكيد عن مكوناتها، وانها ستتطلب التضحية من كل من مكوناتها ببعض اجزائها لتتلاءم مع “الوحدة”، مثلما اشرنا الى موضوع موقف “الوحدة” من المسيح. فهما كان اتفاق هذه “الوحدة” على تعريف المسيح، فسوف يكون على اثنين من الأديان على الاقل، او ثلاثتها، التنازل عن تعريفها له! وكما قلنا فأن لهذا اثر محطم على تلك الاديان للأهمية الشديدة لهذا التعريف بالنسبة للجميع، حيث يدخل في تعريف الله نفسه عند الإسلام والمسيحية، ويدخل في مسألة بقاء الدين بالنسبة لليهودية!
الصعوبة التي يواجهها امثال مقتدى الصدر في “تمرير” المراوغة، ليست فقط النص الصريح بأن “الدين عند الله الإسلام” إنما ايضا في النص الذي يؤكد بأن الإسلام قد تكامل واخذ شكله النهائي منذ أكثر من 1400 عام: “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا”. ولم يقل الله ان الإسلام بحاجة الى ان يتمم بـ “وحدة” مع بقية الأديان!
ا يمكن للسيد مقتدى (الذي لم نره يوما يتحدث بالعربية الفصحى) ان يقوم بنفسه بحل هذا الإشكال، ولا حتى من يكتب له تغريداته، لذلك يلجأ هذا الى تحايلات لغوية لتمويه تلك الصعوبة. فمثلا نلاحظ في بداية التغريدة كيف حاول القفز من فكرة “الديانة الابراهيمية” الى “الديانات السماوية” واعتبرها “نفسها”، (أو “لعلها نفس المصطلح”) متجاهلا أن “الديانات السماوية” هي “جمع” لأديان، بينما “الإبراهيمية” وصف لـ “دين”، أي واحدة! و”الجمع” لا يشترط تشابهه مع مفرداته أو تشابهها فيما بينها بما يسمح بجمع محتوياتها بوحدة منسجمة، فيمكننا ان نقول “الأديان البشرية”، دون ان يعني ذلك ان هناك إمكانية لجمعها في “وحدة” واحدة، دع عنك ان تكون تلك الوحدة هي “نفسها” ذلك الجمع.
بعد ان ميزنا بين الدعوة الأخلاقية الى “التعايش السلمي” بين الأديان و “توحد” الأديان، ومنعنا هذا الخلط الذي لا نعتقد انه غير متعمد، فأفرغنا “الوحدة” من المحتوى الاخلاقي للأولى، لا يبقى هناك مبرر اخلاقي او منطقي للدعوة الى وحدة الاديان. فما الذي يدفع السيد مقتدى الى التورط بهذا الامر الذي يضع عليه استفهامات كبيرة ويهدد سلطته المطلقة على اتباعه، والتي تقوم على أساس مذهبي ديني في الأصل؟ لا بد انه ضغط هائل أو اغراء هائل أو كلاهما. فمن يستطيع تسليط ذلك الضغط او تقديم ذلك الإغراء إلى السيد مقتدى الصدر؟ ولأجل أي هدف كبير تقوم بتسليط ذلك الضغط أو الإغراء؟
الاحتمالات ليست كثيرة.