خطاب “صافرة الكلب” واستخدامه في العراق

صائب خليل

2 آب 2020

يطلق لقب “صافرة الكلب” على نوع من الخطابات السياسية المموهة بشكل يمكنها ان توصل رسالة محددة الى مجموعة معينة دون غيرها، او دون ان تثير انتباه الآخرين. والفكرة تورية عن صافرة تستعمل بالفعل لمناداة الكلاب، ترسل موجات فوق سمعية، تستطيع الكلاب سماعها لكن الاذن البشرية لا تسمعها.

تستخدم “صافرة الكلب” في كتابة الخطابات ذات الطبيعة الحساسة التي تعبر عن موقف يصعب إعلانه صراحة، فتتيح للرئيس او المسؤول ايصال دعمه إلى الجهات التي تتعاطف مع موقف سلبي حساس لكسب ودها، دون ان تحمله مسؤولية قانونية وسياسية مباشرة، او تعطي خصومه حجة للهجوم عليه.

فإذا قال رئيس دولة مثلاً انه يجب التصدي لموجة “لاسامية” (ضد اليهود) فهو يوصل رسالة لأصدقاء إسرائيل، بأنه ينوي البدء بحملة ضد منتقدي إسرائيل، دون ان يستطيع الآخرين الاحتجاج على ذلك، وقد لا يفهم الكثيرون الرسالة.

من الأمثلة الواقعية من السياسة الامريكية أن يتكلم المرشح عن ضرورة “القيم العائلية” امام الناس، ويعلم جمهوره أنه يقصد دعم “القيم المسيحية” وبالتالي الأحزاب والمنظمات المسيحية وأهدافها.

القانون الأمريكي يمنع التمييز العنصري، فيلجأ خصوم باراك أوباما الى التركيز على الجزء الثاني من اسمه الكامل “باراك حسين أوباما” وهم واثقون ان الرسالة وصلت إلى الجمهور عن اصله المرتبط بالإسلام او صدام حسين، والإيحاء ان له علاقة به، دون ان يورطوا انفسهم بكلام يحاسبون عليه.

في استراليا حكومة هاوارد استخدمت نفس الأسلوب لمغازلة مشاعر العنصرية المنتشرة دون تحميل نفسها المسؤولية، وكذلك فعل هاربر في كندا. وفي بريطانيا استخدم المحافظون سلسلة لوحات تحمل شعارات كتب تحتها : هل تفكر بما نفكر به؟، واحدها كان “حان والوقت لتحديد الهجرة”، والتي فهم منها أصحاب التوجهات العنصرية ان الحزب يدعم توجههم ضد الأجانب.

كذلك يستخدم ترمب هذا الأسلوب بكثافة، مثل أي سياسي يحمل اجندة لا أخلاقية يحرص على ايصالها لجمهوره، دون تحمل مسؤوليتها.

. واحياناً تكون الرسالة المموهة غير الواضحة، مناسبة للسخرية والانتشار عن طريق تبادلها كمزحة. ففي خطاب للمرشح الرئاسي ريغان قال: التباطؤ الاقتصادي هو حين يفقد جارك عمله، والركود الاقتصادي حين تفقد انت عملك، والانتعاش الاقتصادي هو حين يفقد كارتر عمله!

لكن لعل ابدع استخدام لـ “صافرة الكلب” في رأيي، كان من قبل رئيس حكومة عراقي! ولا غرابة في ذلك، فمعظم من حكم العراق، تلقى توجيهاً إعلامياً من نفس من يدير حملات الامريكان والغربيين عموما، وخاصة رئيسي الحكومة الأخيرين.

حدث ذلك حين قال عبد المهدي مقولته الشهيرة، أن المخدرات تهرب الى العراق من “الارجنتين”!

لقد وصلت فوراً الى كل كارهي ايران من الشعب العراقي رسالة خفية تقول: “المخدرات من إيران”! لم تستطع ايران أو داعموها ان يحتجوا، فاسمها لم يذكر أبداً. كما ان الرسالة انتشرت على اجنحة النكتة كما لم تنتشر رسالة في العراق قبلها! وطبعا لم يكن ناقلها الساخر من عبد المهدي، يعلم انه هو الضحية وان الضحك عليه هو وليس عبد المهدي الذي كان يؤدي دوره في مسرحية هذا هو هدفها! فمن المستحيلات أن لا يدرك عبد المهدي، وهو اذكى رئيس حكومة في تاريخ العراق برأيي واكثرهم خبثاً، تداعيات عبارته.

“صافرة الكلب” هذه كانت تحمل رسائل أخرى مخفية هي: “عبد المهدي يحاول الدفاع عن ايران” وبالتالي هو “تابع لها” (وقد تثبتت هاتان الفكرتان المجافيتان للواقع تماما، في اذهان الجميع حتى مال اليه القريبون من ايران، في الوقت الذي لم يختلف عبد المهدي عن الكاظمي إلا بأنه كان ذكيا، يعرف اين يقف قبل ان يحطمه سيده. إضافة الى ذلك ارسلت رسائل مستنتجة أخرى مثل “المدافعون عن ايران مسخرة” و “الدفاع عن ايران نفاق مضحك” الخ.

ليس عندي أي شك، ان من اخترع هذه الرسالة العبقرية قد حصل على الكثير من التقدير والاعجاب! وعلى الأغلب لها سوابق في التاريخ الإعلامي السياسي، فليس من السهل خلق مثل هذه الرسالة من العدم.

اليوم، حينما يتحدث الكاظمي عن “حكومة قوية” ويرددها وراءه زميله في العلاقات بالاحتلال، عمار الحكيم، فإنهما يقصدان توجيه رسالة وتحضير الناس لهجوم (غالبا جسدي، مسلح) على جهة ما، دون ان تمنح الرسالة تلك “الجهة” فرصة للرد او الاحتجاج. وحين يتحدث عن “هيبة الدولة” و “فرض سياستها وقوانينها”، فهو يعني الأمر ذاته. وعندما يتحدث عن “الإصلاح الاقتصادي” فهو يوصل رسالة يفهمها صندوق النقد الدولي تماما، وهي: الخصخصة والتقشف وتقليل الصرف الحكومي على المحتاجين. وتصل الرسالة دون ان يفهمها الكثيرون كما هي ودون ان تمنحهم فرصة اعتراض.

كذلك لا تزعجهم صافرة “لن نحتاج الى وجود عسكري امريكي في العراق” بل على الأغلب انهم هم من كتبها، ثم كتب بعدها عن الحاجة لـ “التعاون الأمني والتسليح والتدريب لقواتنا العسكرية والتحالف الدولي”. لأنهم حين نقلوا عشرات الآلاف من الجنود والمرتزقة الى فيتنام، كانوا يدعون انهم عدد من “المدربين”!

حديثه عن “رفض تحويل العراق الى ساحة صراع تنازع مصالح إقليمية ودولية”، لا يقلق الأمريكان، لأنهم يعلمون انه صوت “صافرة الكلب” التي يسمعونها ويفهمونها، ويعلمون انهم ليسوا المقصودين بها رغم انهم أكثر من يحول العراق إلى “ساحة صراع” بقواعدهم العسكرية وعدوانهم بالتهديد والقتل والاغتيال.

 أما الحديث عن ايقاف “فوضى السلاح المنفلت” و ” الجماعات الخارجة عن القانون والجريمة المنظمة”، فقد استهلك تمويهها حتى لم يعد ينطلي على أحد، لكنه مازال يحمي مطلقها من المحاسبة او المعاتبة، فمن يستطيع الاعتراض على السيطرة على “سلاح منفلت” و “جماعات الخارجة عن القانون”؟

ومن يستطيع ان يعترض على ان “سلامة البعثات الدبلوماسية ومن دعمونا في الحرب ضد داعش هي مهمة الحكومة وتقع ضمن مهماتها السيادية”، عبارة سليمة، إن لم يسمعها بمعناها الحقيقي الذي هو: حماية فرق الاغتيال الأمريكية وهي تمارس القتل ضد كل من يعترض، وتنتهك السيادة حتى آخر قطرة من ماء الوجه”!؟