اميركا تحاصر ربع البشرية بالعقوبات.. وتهدد الباقي!
صائب خليل
قبل خمسين عاماً، صرخ نيكسون بوزير خزانته، غاضبا من سياسة الندي الاقتصادية في شيلي حين حاول الأخير ان يعيد ثروة بلاده الى شعبه بتأميم مناجم المعادن: “أريد أن يصرخ اقتصاد شيلي من الألم”!!
وصرخ اقتصاد شيلي، ثم أكملت المؤامرة بالاغتيالات والتظاهرات وقصف الحكومة المنتخبة، وسارعت اميركا لدعم القتلة الذين حطموا واحدة من اكثر الديمقراطيات عراقة!
لم تكن شيلي أول اقتصاد “تعصره” اميركا ليصرخ من الألم، وبالتأكيد لم يكن الأخير، بل تزايد صراخ الشعوب تحت يد غول الرأسمالية الأمريكية، حتى وصل اليوم مرحلة صارت فيها البشرية أمام خيار بين صراع مرير أو عبودية، والأمر لا يقتصر على البلدان الصغيرة!
قبل فترة وجيزة، أرسلت حكومات كل من الصين وكوبا وإيران ونيكاراغوا وكوريا الشمالية وروسيا وسوريا وفنزويلا – وكلها تخضع لعقوبات من الولايات المتحدة – رسالة مشتركة إلى الأمين العام للأمم المتحدة دعوا فيها إياه إلى إنهاء الحصار الاقتصادي الأمريكي الأحادي باعتباره “ينتهك بشكل صارخ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة”.
المقرر الأمريكي الخاص لدى الأمم المتحدة، ألفريد دي زياس، نبه إلى عدم شرعية العقوبات فذكر بأن العقوبات الدولية القانونية الوحيدة هي التي يتم فرضها بالتصويت في مجلس الأمن، وأية عقوبة أحادية الجانب غير قانونية. كذلك فإن العقوبات الاقتصادية هي نوع من “العقاب الجماعي” ضد السكان، وانتهاك صريح لميثاق الأمم المتحدة، ولأساس القانون الدولي.
تتحرك الولايات المتحدة لمعاقبة أي دولة تجرؤ حكومتها على التصور أن مواردها يجب أن تكون لصالح شعبها، وليس لتعظيم أرباح الشركات متعددة الجنسيات، أو تقرر إعطاء الأولوية لرفاهية مواطنيها على أرباح الشركات أو ترفض ببساطة قبول الإملاءات الامريكية في الطريقة التي ينبغي لها إدارة اقتصادها. ولأن هذا حق شرعي، بل وموقف مشرّف، فليس بالإمكان تبرير معاقبة صاحبه، اخترعت اميركا له اسماً سلبيا لتشويه سمعته فوصفته بـ “تهديد للاستقرار”، حسبما ينبه جومسكي. وهو بالفعل “تهديد لاستقرار” ابتزاز المصالح المالية لثروة شعب تلك البلاد، في نظام قامت تلك المصالح بالاتفاق عليه واسمته “إجماع واشنطن”، والذي لا يعني في الحقيقة سوى “إملاءات واشنطن”.
العقوبات الاقتصادية سلاح تدمير شامل وحشي، لا يميز بين الافراد، بل أن تأثيره الأشد هو على الأبرياء والفقراء! واضافة الى ذلك فهو سلاح “غير متناظر”، بمعنى ان الدولة العظمى تستطيع استخدامه دون ان تخشى أن يستخدمه عدوها ضدها، وهذا يشجعها على حرب لا تكلف المعتدي شيئا! لذلك لا غرابة أن تفرض الولايات المتحدة اليوم ما يقارب 8000 عقوبة اقتصادية سارية!
وتدرك واشنطن بالطبع أهمية هذا السلاح الاقتصادي لإدامة هيمنتها على البشرية. فهي مثلا تعتبر منطقة الشرق الأوسط الغنية بالنفط (وخاصة الخليج) منطقة نفوذ ومصالح أمريكية لا يسمح لأحد ان ينافسها عليها. ولنلاحظ هنا ان اميركا ليست بحاجة اطلاقا الى نفط الخليج او أي نفط آخر لوفرة ما تمتلكه، لكن اميركا تستخدم نفط الخليج فقط كسلاح اقتصادي لتنفيذ مخططاتها.
ولنلاحظ أيضا ان التدمير الاقتصادي وحرمان البلاد من قدراتها الاقتصادية، لا تقتصر على الحصار بمفهومه البسيط، بل هناك أيضا أسلوب آخر، وهو التلاعب بأسعار السلع عن طريق طرحها المبالغ به للعرض في السوق. فمعروف أن جزء من أسباب سقوط الاتحاد السوفيتي هو رفع السعودية بأوامر أمريكية لإنتاجها من النفط واغراق السوق واسقاط سعره، رغم ان ذلك يضر بالسعودية ايضاً! وتكرر الأمر مع العراق بعد خروجه منهكا من حربه ضد ايران، وتداعت الأحداث لإيصاله الى ان يقع في القبضة الامريكية تماماً.
وسواء كان الضغط بشكل حصار أم اغراق للسوق، فالنتيجة واحدة: حرمان الضحية من مواردها الضرورية للعيش.
وقد عززت الولايات المتحدة بوعي تام، سلطتها الاقتصادية على البشرية من خلال فرض سلطة الدولار عليها كوسيلة مهيمنة على التعامل التجاري والمالي، كما سنشرح ذلك بالتفصيل في الجزء الثاني من المقالة، حين نتحدث عن سر الطريقة التي حصلت بها اميركا على هيمنتها المالية وقدرتها على فرض العقوبات على غيرها.
كتب الخبير الاقتصادي والناقد القوي للإمبريالية مايكل هدسون ذات مرة: “لقد أُبلغت في اجتماع بالبيت الأبيض أن الدبلوماسيين الأمريكيين قد أبلغوا السعودية والدول العربية الأخرى، أنهم يستطيعون تحديد سعر نفطهم، لكن الولايات المتحدة سوف تعتبر التعامل بغير الدولار لبيع النفط، على انه عدوان حربي على الولايات المتحدة”!!
لنلاحظ هنا نقطتين مثيرتين للاهتمام:
الأولى هي أن الولايات المتحدة تتيح لنفسها “اعتبار” أي شيء، “عدوان حربي” عليها، مهما كان هذا الاعتبار سخيفا وبعيدا عن المنطق مثل حرية جهة بتحديد ما تبيع به بضاعتها، مادام هذا “الاعتبار” مفيدا لها! ولا يفسر هذا الأمر سوى سياسة عصابات المافيا التي تتبعها هذه الدولة.
الثانية هي أن الولايات المتحدة تعتبر نفسها حامية لسياسة “حرية السوق”، وهي هنا تطمس “حرية السوق” في الوحل، بتدخلها حتى في علاقة تجارية ليست أحد أطرافها.
اعتباراً من آب 2020، تشمل البلدان الخاضعة للعقوبات (كلياً او جزئيا) البلقان وبيلاروسيا وبوروندي وجمهورية إفريقيا الوسطى وكوبا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وهونغ كونغ وإيران والعراق (اشخاص وأحزاب بحجة الإرهاب) ولبنان وليبيا ومالي ونيكاراغوا وكوريا الشمالية، الصومال، السودان، جنوب السودان، سوريا، أوكرانيا / روسيا، فنزويلا، اليمن، وزيمبابوي.
وتقدر نسبة البشر الواقعين تحت العقوبات الأمريكية، بدرجة او بأخرى، بربع البشرية، لكن ضحايا الحصار الأمريكي يشمل بشكل متفاوت القسوة، كل البشرية!
فعندما تحاصر سوريا وايران ولبنان مثلا، فإنك لا تمنع تجارتها وحدها، بل تمنع كل العالم من التجارة معها أيضا! فحين تقطع خط تواصل دولة ما مع العالم لمحاصرتها، فإنك تقطع الخط بالاتجاهين، وتصيب بالضرر كل من الجانبين. وقد اشتكت المانيا مثلا من ضغط اميركا لمنعها من استيراد الغاز الروسي، رغم ان المانيا ليست رسميا تحت الحصار، بل “صديقة” كبيرة لأميركا!
إضافة الى ذلك، فـ “ربع البشرية” هذا هو من وقع تحت العقوبات المباشرة نتيجة رفضه الإذعان للإملاءات الامريكية السياسية أو الاقتصادية. لكن من لا يتعرض اليوم للعقوبات الأمريكية، فهو في الغالب قد اذعن لقبول شروط فيها تنازل عن مصالحه، تحت التهديد بالعقوبات. فالدول الأوروبية مثلا، مجبرة على تنفيذ الحصارات الامريكية حتى التي تضر بها. وقد يأخذ الابتزاز بالتهديد بالعقوبات اشكالاً شديدة الوقاحة، كما حدث للعراق الذي أجبر على تعيين رئيس حكومته الحالي لأنه عميل امريكي، لكي يتجنب التهديدات الامريكية الصريحة بوقف الغاز والكهرباء الإيرانية عنه، إضافة إلى تهديدات اقتصادية أخرى أكثر خطورة.
العالم كله يشعر بأن العقوبات تهدده وهو منزعج منها. ففي تشرين الثاني الماضي، على سبيل المثال، صوتت الأمم المتحدة 187-3 لإدانة الحظر الذي تفرضه واشنطن على كوبا. حيث لم تقف مع الولايات المتحدة سوى – إسرائيل والبرازيل. وهذه هي السنة الثامنة والعشرون على التوالي التي يصوت فيها العالم ضد العقوبات، وكانت النتائج متقاربة بين سنة إلى أخرى.
امثلة على عقوبات أمريكية ضد دول
لقد استخدم صانعو السياسة الأمريكيون هذا السلاح منذ تأسيس الدولة تقريبًا ففرضت العقوبات على السفن التي تتعامل مع فرنسا وانكلترا عام 1807. وبعد الحادي عشر من سبتمبر، وسعت الولايات المتحدة استخدام العقوبات الاقتصادية بحجة ملاحقة تمويل الإرهاب، ثم ازدادت بشكل مستمر، حتى قام ترمب بفرض 700 عقاب في يوم واحد!
كوبا
منذ أن تولى كاسترو السلطة عام 1959 فرضت الولايات المتحدة حظرًا تجاريًا ولم يُسمح للأمريكيين بالتجارة أو السفر مع المؤسسات الكوبية. ويشمل الحظر أي كيان اقتصادي يتعامل مع كوبا. وكان من ضمن العقوبات أن اية سفينة ترسو في ميناء كوبي، تمنع من الرسو في الولايات المتحدة لمدة نصف عام! وهو ما جعل تجارة كوبا مع العالم في غاية الصعوبة والكلفة.
ومن نتائج ذلك قطع المعدات الطبية والأدوية الضرورية للحياة. وتم تهديد شركات في سويسرا وفرنسا والمكسيك والدومينيكان بأعمال انتقامية، ما لم تلغي مبيعات بضائع إلى كوبا مثل الصابون والحليب، والتي وصفتها وزارة التجارة الأمريكية بأنها “مبيعات تساهم في “الإرهاب الطبي” الكوبي!!
وفي عام 1996 سن قانون يسمح للمواطنين الأمريكيين الذين تركوا ممتلكات او تمت مصادرتها بعد الثورة في كوبا، برفع دعوى ضد الشركات الأجنبية التي تتعامل مع كوبا، (وهو ابتزاز لا أساس قانوني له) كما منعت اية سلع تحتوي على أية مكونات منشؤها كوبا من دخول الولايات المتحدة.
إيران
العقوبات على أيران لم تختلف كثيرا، فذكرت الحكومة الإيرانية في 2020 إنها خسرت 150 مليار دولار منذ انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي لعام 2015، وإنها ممنوعة من استيراد المواد الغذائية والأدوية.
وتنفيذا للعقوبات الجديدة التي فرضتها إدارة ترامب من جانب واحد على إيران، انسحبت الشركات الأوروبية منها، رغم محاولات الاتحاد الأوروبي منعها من ذلك، حيث ان الضرر من العقوبات الامريكية كان اكبر بكثير من الغرامات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على شركاته التي تستجيب لتلك العقوبات.
وبقطع نظام [SWIFT]، تم قطع معظم البنوك الإيرانية البالغ عددها أكثر من 50 ، عن العالم، بما في ذلك البنك المركزي الإيراني، وهو ما يعادل “حكم الإعدام” بالنسبة للسوق المالية.
وقد أدت العقوبات إلى خسارة الريال الإيراني 80 بالمئة من قيمته، مع تضاعف أسعار المواد الغذائية والبطالة. ورغم أن الطب معفى رسميا من العقوبات، لكن عقوبات واشنطن ترهب أية دولة أو شركة تفكر في التعامل مع طهران، فحتى بظروف تفشي فيروس كورونا في البلاد، لم تكن أي دولة على استعداد للتبرع حتى بالإمدادات الأساسية لإيران، حتى تدخلت منظمة الصحة العالمية وقدمت لها المؤن بشكل مباشر. ودفعت العقوبات الأمريكية البنوك والشركات في جميع أنحاء العالم إلى الانسحاب حتى من المعاملات الإنسانية مع إيران، مما ترك الذين يعانون من أمراض نادرة أو معقدة في ايران، غير قادرين على الحصول على الدواء والعلاج الذي يحتاجونه.
حاولت أميركا تحقيق 12 مطلبا ابتزازيا قدمها وزير الخارجية السابق مايك بومبيو لإيران – واهمها التخلي عن الأسلحة النووية، وقف الدعم لحزب الله وهو ما يعني مطالبة ايران بتغيير شامل لسياستها الخارجية، وهو ما رفضته إيران. تعتبر إيران حاليًا أكبر متلق حكومي للعقوبات الأمريكية. وتأمل واشنطن بأن تؤدي عقوباتها إلى تغيير النظام في الجمهورية الإسلامية.
فنزويلا
زار دي زياس فنزويلا ووصف العقوبات الأمريكية بأنها أقرب إلى حصار من القرون الوسطى واتهم إدارة ترامب بارتكاب “جرائم ضد الإنسانية”. كذلك أدان مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة رسميًا الولايات المتحدة مشيرًا إلى أن عقوبات ترامب مصممة من أجل “التأثير بشكل خاص على الفقراء والأكثر ضعفًا”. وهذا يجعل هذا السلاح اكثر اغراءاً لأميركا، فأصدقاء أميركا هم الأثرياء في كل بلد، وهؤلاء لن يموتوا جوعا من العقوبات. ووصفت سياسة ترامب تجاه فنزويلا بسياسة “الخنق البطيء”! فقدر تقرير صدر عام 2019 من مركز أبحاث السياسة الاقتصادية في واشنطن أن العقوبات قتلت ما لا يقل عن 40 ألف فنزويلي بين منتصف 2017 و2018.
لكن هذه الأرقام تتقزم امام الكارثة الإنسانية المخططة التي احدثتها العقوبات على العراق، والتي وصلت في مرحلة معينة الى قتل نصف مليون من الأطفال فقط، وباعتراف مادلين اولبرايت، وبقولها انها تدعم تلك السياسة، مما أدى بالفعل إلى ارتفاع عدد الضحايا الكلي الى اكثر من مليون انسان بسبب الفقر وفقدان العلاج.
وبالطبع فهناك اليوم سوريا، التي أطلق عليها جون بولتون اسم “ما وراء محور الشر” ، ولبنان الذي صار ثلاثة ارباع شعبه تحت خط الفقر، اما كوريا الشمالية فهي الدولة الأكثر تضررًا من العقوبات الاقتصادية الأمريكية، والقائمة لا نهاية لها.
جدير بالذكر أن العقوبات الاقتصادية توجه أيضا للدول القوية كأسلوب مفضل للمجابهة بدلا من الحرب لأنها شديدة الكلفة بين الدول الكبيرة.
ملخص المقالة اذن، ان العقوبات الاقتصادية سلاح تدمير شامل وحشي ومخالف لكل القوانين الدولية إضافة الى أنه مهين لسيادة الدول وذو اثر مدمر يزيد أحيانا عن القنبلة النووية. وكونه قليل الكلفة على من يشنه يجعله سلاحاً مغريا بالإفراط في استعماله، وهو ما يحدث اليوم بالفعل.
وبسبب طبيعة العقوبات الاقتصادية، فإنها تعاقب الجميع، حتى الذين لا يشملهم اعلان العقوبة، ذلك ان العقوبة تقطع الطريق الاقتصادي على الجانبين، وتحول العالم الى كانتونات لا تستطيع التواصل اقتصاديا، وتصيب بالضرر الجميع، وان كان بشكل متفاوت.
السؤال الكبير هنا: ما الذي يجعل الولايات المتحدة قادرة على مثل هذا الإجراء؟ ما هي الآلية التي تستطيع بها قطع التجارة بين طرفين، حتى عندما لا تكون هي أحدهما؟
والسؤال الكبير الآخر، هل من مخرج للعالم من هذا الحال؟ من يمكن ان يقوم به وكم سيستغرق؟
هذا ما سنتحدث عنه في الجزء التالي من المقالة
روابط للمتابعة (باللغة الإنجليزية):
https://www.monticello.org/site/research-and-collections/embargo-1807
https://www.investopedia.com/financial-edge/0410/countries-sanctioned-by-the-u.s.—and-why.aspx