المقاومة والضياع السياسي – نقد مقابلة الشيخ الخزعلي
صائب خليل
تزامنت ضربة السفارة وبيان حزب الله حولها (وابديت حوله انتقادا في مقالتي السابقة(1))، مع مقابلة اجراها الشيخ الخزعلي الذي يقود فصيلا من اهم فصائل المقاومة، في فضائية “العراقية”. ومثل بيان حزب الله أعلاه، كشفت مقابلة الخزعلي(2) أيضا أمورا خطيرة من جهة، وخللا في فهم ومنطق المقاومة العراقية لقضايا سياسية أساسية، من الجهة الأخرى.
وقبل ان ابدأ يجب ان أؤكد إيجابية الصراحة التي تحدث بها الخزعلي، وأهمية ما ذكره حول الاتفاق على الهدنة وشروطها وانها انتهت بعدم تحقق الشروط. ومهم ما ذكره أيضا عن خطورة السفارة وتشكيلها “حكومة ظل” تمارس الحكم في حقيقة الأمر، رغم انه لم يكن اول من ذكر ذلك، لأن في تكرار الحقائق المهمة المنسية أهمية كبيرة. كذلك مهمة هي الرسالة التي وجهها الى قآآني والتي بينت توجها أكثر استقلالا عن إيران، فمهما توافقت الجهتان، فإن المصالح لن تتطابق دائما، خاصة في حالة تناقض مواقف ماسكي السلطة في هذا البلد.
مما ذكره الخزعلي من نقاط خطيرة، قوله إن من يختار رئيس الحكومة هو جهتين: الأولى هي القوى السياسية والثانية هي المرجعية، مضيفا أن المرجعية لا تفرض أحدا بالضرورة لكن لا أحد يمكن ان يشكل حكومة إلا برضاها.
وخطورة هذه النقطة انها (إن صدق الخزعلي) فهي اعتراف بتدخل المرجعية بتحديد الحكومة ورئيس الوزراء، على عكس ما يدعي المقربون منها. فالعبارة تعني أن المرجعية سبق ان منعت البعض من الترشيح حين لم ترض عنه. ولو انها لم تمنع احداً لما تمكن الخزعلي او غيره من معرفة مدى قدرتها على المنع. وبالتالي فهي تمارس دور “الولي الفقيه” دون إعلان ذلك ودون تبني المبدأ. ولذلك، وعلى العكس من ولاية الفقيه في إيران، فنحن حتى لا نعرف من هم الذين منعتهم المرجعية! ولا نعرف المقياس الذي يستعمل للقبول والرفض والذي يسمح بتمرير قادة خارج النطاق الدستوري أو بتآمر امريكي كردستاني مثل العبادي، أو عميل معلن للسفارة الأمريكية! كل هذه الأسئلة تؤكد ما اثرته من تساؤلات سابقا واثاره غيري، عما يتم ابلاغ السيد السيستاني به، وإن كان هو بالفعل من يصدر تلك التوصيات السياسية بقبول هذا ورفض ذاك، ام هي الحاشية المحيطة به، خاصة وانه لا يتوقع ان يتدخل في السياسة بهذا الشكل المباشر وغير المناسب.
الحقيقة الثانية المهمة التي كشفتها المقابلة هي أن ممثلة الأمم المتحدة لم يكن لها دور في الهدنة بين المقاومة والأمريكان، وإنما كانت الهدنة “بتوسط” هادي العامري!
وهذا يفترض ان يثير غضب جمهور المقاومة، أولاً لأنه تم الإيحاء له بأن بلاسخارت هي من فعل ذلك وان هناك اتفاق ما، من خلال ترك الاعلام يتحدث عن هذا الموضوع الى جمهور المقاومة دون تقديم أي بيان بالأمر! ولا يستبعد ان يكون الأمر متعمدا لحماية هادي العامري من المزيد من الشكوك، وهو الذي تثار حوله أسئلة استفهام كثيرة جدا منذ ترشيحه لعميل السفارة وخيانة جمهوره وامتناعه عن تقديم أي توضيح او موقف من كل التدمير الذي قام ويقوم به الكاظمي حتى اليوم.
إضافة الى ذلك فأن هذا يعني اننا لم نعرف حتى الآن أي شيء دار بين بلاسخارت والمقاومة، فهي لم تأت الى أبو فدك لتناول الشاي فقط! والتحجج بالسرية أمر غير مقنع، لأن هذه السرية لا تشمل سوى جمهور المقاومة، فأمريكا تعرف بها مباشرة وكذلك إسرائيل (والأكيد ان هما من ارسلاها للمفاوضة) وطبعا هما ينقلان الخبر الى كل من يريدون من عملائهما، وبالتالي الشعب العراقي وجمهورها وحده من يترك في الظلام.
قبل الانتقال الى موضوع المقالة، اود ان انبه الى طريقة “بوس اللحى” التي تتعامل بها المقاومة. فما معنى ان “يتوسط” العامري من اجل هدنة مع الامريكان؟ هل العامري جهة محايدة بين الامريكان والعراق؟ إن كلمة “يتوسط” بذاتها تعني ان قيمة الرجل الشخصية لدى المقاومة، قد لعبت دوراً في قرار حياة او موت للمقاومة، قرار حياة او موت للعراق، يجب ان يقرر بكل دقة وبعدم تأثر. كذلك فأن العامري، رغم احترامنا لتضحياته، هو آخر من يجب ان يقدم نصيحة أو ان يستمع اليه أحد في قضية سياسية. فيكفي ان تحيط الرجل بمحتالين اثنين ليقنعوه بأي شيء في العالم. ولو أن المرء يتخذ قراراته برمي الزار وتركه للصدفة، لكانت نسبة الصحيح فيها اعلى من نصائح العامري! وقد حطم سمعته الجهادية وسمعة كتلته بمواقفه الكارثية.
النقطة المركزية التي اريد أن أسلط الضوء عليها هي موقف المقاومة من الكاظمي والحكم بشكل عام في العراق، وفق ما جاء في المقابلة، والتي تمثل في رأيي الخلل الأساسي في مفاهيمها.
قال الخزعلي: “بعد ترامب والاحتجاجات صرنا اقلية وتصرفنا تصرف اقلية، من ناحية القرار”
وقال: “كل من قال ان السيد رئيس الوزراء الكاظمي هو جاء برضا او قرار الأغلبية غير دقيق او غير مطلع او يستعمل الدبلوماسية”. وأضاف: “لم يفرض (علينا) لكنه لم يكن مرشح الأغلبية ومطلبها انما الواقع الجديد فرض ذلك”.
والملاحظة الأولى هنا أنه لا يحق سياسياً للأغلبية ان تتصرف كأقلية، خاصة ان تفعل ذلك سراً عن جمهورها! وإن اضطرتها الظروف، ولم تجد طريقا لممارسة حقها الدستوري بترشيح من تختاره بحرية، فأن التصرف الصحيح هو بالتنحي عن هذا الحق ببيان علني وكشف الحقائق لجماهيرها، وان تبين لها بوضوح أين المشكلة، لأنها مسؤولة أمام جماهيرها التي اوصلتها بأصواتها، عن تنفيذ وعودها لها وآمالها بها كأية جهة سياسية امينة حققت الأغلبية النيابية (ولا اتحدث هنا عن “اغلبية شيعية”، العبارة السيئة الشائعة التي كلفت العراق والشيعة بالذات الكثير، لكني اتحدث عن “اغلبية نيابية” تمتلكها كتلة شيعية). مادمت لا تستطيع التصرف كأغلبية وترشح من تعتمد عليه للحكم، فاعلن ذلك لجماهيرك لتفهم ما يحدث، واتخذ قرارا بموقفك. وحتى ان كنت من الضعف أن لا تستطيع حتى منعهم من تنصيب عميل، فدعهم على الأقل ينصبون عميلهم على مسؤوليتهم، لا ان تتصرف كأنك من يتخذ القرار السيء في الوقت الذي تخضع لإملاءات السفارة وتتحمل مسؤولية عملائها ومسؤولية جرائمهم امام جمهورك وناخبيك وشعبك!
كل الضوضاء المثارة حول “الضرورات” و “الحرب الاهلية” و “الانتقام الأمريكي” وغيره لا يكفي لتبرير ذلك الخلل. لا ضرورات في العالم تضطرك لتنصيب عميل لعدو على رأس بلدك، ولا “حرب أهلية” سيعلنها السنة ان لم ينصب هذا العميل، والانتقام الأمريكي مجرد نظرية وليس من السهل التخلي عن كل ما يملكون في العراق فعليا، ويسحبون سفارة مهولة، إن رفض تنصيب عميلهم على رأسه، بل سيهدئون اللعب ويشتغلون على المستقبل، لكنك ستكون في وضع افضل للدفاع عن نفسك وللتفاوض مع عدوك.
لتبرير هذا الموقف الضعيف والغريب، يضيف الخزعلي: “مع العلم ان المصلحة فيما حدث. كان افضل شي كان يمكن ان يحصل هو ان يكون هناك رئيس وزراء شيعي بين قوسين، غير مرتبط بالمحور الإيراني بل بالعكس قريب من المحور الأمريكي الخليجي ورجل علماني مو إسلامي”.. ويضيف لشرح هذه الاحجية انها تحقق “هدفين : الأول أن على بعض العراقيين ان يفهموا انه مثلما انه ليس هناك مصلحة ان يكون باتجاه محور الشرق فليس هناك مصلحة للعراق في ان يكون باتجاه محور الغرب. والثاني: أن الماكنة الإعلامية االخاصة بالطرف الغربي الامريكين بانه سبب مشاكل الفساد رئيس وزراء شيعي إسلامي مرتبط بإيران، الآن عندنا حكومة برئيس وزراء شيعي لا إسلامي ولا مرتبط بإيران”!
والخلل في هذا المنطق، وهذا الفهم للأمور، ان الخزعلي يرى ان هذا “افضل شيء”، ليس لأنه سيجعل العراق افضل، بل بالعكس تماما! هو يتوقع أن العراق سيكون أسوأ او على الأقل بنفس السوء، وان هذا الحال السيء سيبين للعراقيين، أولاً، انه لا مصلحة للعراق في ان يكون في محور الغرب، وأن الفساد ليس مقتصرا على وجود رئيس وزراء شيعي إسلامي مرتبط بإيران، بل يمكن ان يكون مع “رئيس وزراء شيعي لا إسلامي ولا مرتبط بإيران”! أي ان الشيخ يخاطر بوجود العراق كله، بتسليمه الى عميل امريكي، وبشكل مهين ومدمر للشعب العراقي، من أجل ان يبرئ “الإسلامي” من تهمة الفساد، او ليثبت ان الفساد يشمل الآخرين أيضا!
هناك مثل إنكليزي يقول: “لا تحرق بيتك لكي تخيف الفئران”، والمقصود به انك لا يجب ان تضحي بكل شيء، لتحقيق هدف اصغر بكثير مما تخسره. فتسليم البلد لعميل دولة معادية، مصممة على تحطيمه إلى درجة تأسيس داعش والصرف عليها عشرات المليارات من الدولارات والقيام بحمايتها وقتال الجيش والحشد الى جانبها وتحمل احراج انقاذ قادتها امام كامرات المقاومة، يجب ان يصيب بالرعب أي انسان مدرك! إنه لا يختلف عملياً عن تسليم البلد لداعش! وإن كنت تعتقد انكم بالقوة اللازمة لمنعه من تحقيق الأذى الشديد، فلماذا اذن لم تكونوا بالقوة اللازمة لاستخدام حقكم الدستوري وواجبكم تجاه ناخبيكم ووطنكم وانفسكم بفرض الشخص الذي تثقون به ودعمه؟ إن كنتم قادرين ان تحموا البلد وانفسكم بوجود رئيس وزراء عميل لعدو، وجمهوركم مصاب بخيبة امل قاتلة وذهول لا يعرف ما الذي يجري حوله، فأنتم اقدر على حمايته وحماية أنفسكم عندما يكون رئيس الوزراء منكم، وجمهوركم تحركه الحماسة لدعم حكومته التي وعدته فأوفت بوعدها، خاصة ان بدأت بتحقيق الإنجازات له ولكل الشعب وكسبت ثقته.
أوليست هذه هي الطريقة الطبيعية والصحيحة لإثبات ان الفساد لا يرتبط برئيس إسلامي شيعي، بدلا من هذه الطريقة المدمرة والغريبة، والتي لا تثبت شيئا في الحقيقة! فحتى إن كان هذا العميل لا يصلي ولا يصوم، ففساده لن يبرء الإسلاميين الشيعة، لأنهم هم من رشحه أو قبل به، وبالتالي يتحملون مسؤولية فساده (وانتم بالذات اكثر من يتحملها).
الهدف الغريب الآخر (ان يفهم الشعب العراقي ان اللجوء الى محور الغرب ليس افضل) لا يقل غرابة. فأولا، ليست هناك فكرة شائعة الى هذه الدرجة بأن العراق يجب ان يلتحق بالمحور الغربي، بل الغالبية تدرك الخطر الأمريكي وتسعى للابتعاد عنه، أو على الأقل تنادي بضرورة عدم الالتحاق بأي محور (النأي بالنفس). ثانياً ان حكومة التجار الإصلاحيين التي تحكم ايران، دعمت الكاظمي بشكل مكشوف اكثر من دعمها لأي (عميل امريكي) سابق تم تنصيبه على العراق، حتى انني اصبت بصدمة حين كنت أقرأ فلا اجد فرقاً بين وصف “الحرة” و “وكالة مهر” وتغزلها بالكاظمي، وكما بينت في عدة مقالات!
هل قرأ الشيخ الخزعلي قضية أرشيف العراق وتهريبه من قبل الكاظمي؟ هل فكر ان هذا يعني تسليم أعداء العراق اهم اسراره التي تمكنه من ابتزاز الاف من الشخصيات المهمة؟ هل قرأ ما يأمله الأمريكان من الكاظمي في تقاريرهم من معهد واشنطن؟ هل يدرك معنى وضع عميل على رأس القيادة العامة للقوات المسلحة لينصب وزير دفاع عميل ووزير داخلية عميل وقيادات الأمن والقوات الخاصة وغيرها؟ أن يغرق البلد في قروض بحاجة وغير حاجة وتهيئته لرهن ثروته ودفن مستقبل أبناء في الجوع والحرمان؟ ان يرشح العملاء للتفاوض وان يعقد المزيد من الاتفاقات لتحويل ثروات العراق الى عملاء إسرائيل؟ ان يسلم ما لديه من مال إلى كردستان ويهدد العراقيين أنهم سيجوعوا ان لم يقبلوا برهن بلدهم لدى اشرس وحوش المال من ذوي التاريخ الدموي لضحاياها من الشعوب؟ من سيزيل آثار كل هذا الدمار؟ انت؟
التبرير لا ينم فقط عن خلل في المنطق، انما عن انانية كبيرة أيضا واستهتار غريب بمصير العراق ومصير مقاوميه بالذات، من اجل اهداف إعلامية تافهة، وفوق ذلك فهي لن تتحقق على الأغلب. فحتى لو كان الكاظمي سنيا أمريكيا صريحا وحتى لو كانت ايران لم تدعمه ابداً، وكان مثالا لـ “الفرصة الغربية”، فهو لن يثبت شيئا، لأنهم ببساطة يمكنهم ان يقولوا في نهاية الأمر: “ما خلوه يشتغل!”، وانتهت المشكلة الإعلامية بالنسبة لهم، وانتهى “الإحراج” الذي تمت المخاطرة بمصير البلد من اجله، وهو ما سيفعلونه بالتأكيد في كل الأحوال.
ما هو الموقف الصحيح؟
أتفهم الخوف من “الماكنة الإعلامية” الهائلة لأميركا وإسرائيل، لكن هذا لا يعني انك يجب ان تتصرف وفق ما يمليه عليك هذا الخوف بدون حساب للخسائر الأخرى الأكبر.
لا يوجد مقاومون يتراجعون عن حقهم في استلام زمام بلادهم خوفاً من هجوم اعلامي عليهم، أو لتحييد عدوهم إعلاميا. فالسلاح الإعلامي جزء من التحدي، وإن تراجع المقاومون أمامه اتقاء شره، فهو يعني انه لا أمل للبلد بالنجاة اطلاقا.
فعندما تقدم نفسك بجناح سياسي له برنامج وناخبين، فعليك ان تقبل التحدي والمعركة بكل ابعادها الاقتصادية والعسكرية والأمنية والاجتماعية والإعلامية، وأن تراهن على مقاوميك وجمهورك الذي سيلتف حولك وأنت تحقق اول وعودك، وتواجه الماكنة الإعلامية أيضا بما تستطيع تحقيقه من ماكنة إعلامية مضادة. فعندما تكون الحقيقة معك، سيكون اصعب على ماكنتهم ان تنتصر حتى ان كانت اقوى بكثير من ماكنتك.
وعلى اية حال فأن تلك هي فرصتك الوحيدة وعليك ان تقبلها وإلا ما قيمتك؟ ما هدفك؟ متى تنوي تحقيقه؟ ما هي الظروف التي تأملها لتحقق ما تحلم به لبلدك؟ لتحقق ما يحلم به جمهورك لبلدهم؟ إن لم تكن حريصا على مثل تلك الفرص النادرة، ولا تنوي استغلالها، فعليك ان لا تدخل انتخابات أصلا ولا تعد بشيء، لعل الشعب يجد غيرك ليقوم بالمهمة. هذا هو التصرف المنتظر من اية جهة سياسية امينة مقاومة تضع دمها على راحة كفها من أجل وطنها ومبادئها، وإلا فسوف نفهم أن همها هو بالفعل كغيرها، الحصول على الجاه والمناصب، وبغض النظر عن الهاوية التي يتجه اليها البلد.
(1) نقد الموقف السياسي للمقاومة العراقية من احداث السفارة
(2) لقاء الامين العام لحركة عصائب اهل الحق سماحة الشيخ قيس الخزعلي مع العراقية 2020/11/19
https://www.youtube.com/watch?v=y6jZ7u3YcUM