القفص
صائب خليل
تخيل نفسك نمراً! سوف يمكنك ان لا تخشى أحدا، ولا حتى الأسود! يمكنك ان تتخيل نفسك وانت تكشر عن انيابك لأكبر الحيوانات فتتجنب الاشتباك معك، وتعرض مخالبك فتثير الرعب حولك. لكنك ستكون واهما جداً إن لم تخف من “القفص” الذي يضعه لك الصيادون في حفرة مغطاة بالأعشاب لعلك تنزلق وتسقط فيه! فالفارق بين حالك خارج القفص وداخله، كبير جداً. ففي القفص، ستفقد كل عوامل قوتك ومعها أسباب اطمئنانك.
هذا كان موضوع القصة الرائعة المعبرة لزكريا تامر “النمور في اليوم العاشر”(1)، ولعلها أعظم القصص القصيرة في تاريخ الأدب، ان قسنا ذلك بالدرس الذي تقدمه لنا. ملخص القصة، ان نمرا وقع في قفص مروّض فأصبح تحت تصرفه. وتصور النمر في البداية أنه قادر على ان يبقى نمراً، لكن المروض افهم النمر في النهاية ان “نمراً في القفص” ليس نمر وانه بسبب سيطرة المروض على حاجاته الأساسية كالطعام، فإن هذا صار يتحكم بشكل كامل بمصيره، ففقد كل كبرياءه وصار مخلوقاً ذليلا لسيده، يقلد مواء القطط ويأكل الحشيش ويفعل كل ما لم يكن يتخيل يوماً أنه يمكن ان يفعله.
بإيحاء من الفكرة كتبت كيف بدأت جماعات باسلة تضعف وتهبط الى أن تصل الى حالة النمر في القفص فلا تمتنع في “يومها العاشر” عن المواء، فكتبت في “الصدريون في يومهم العاشر” (2) كيف انتقل الصدريون من “الأروع بين كل الكتل السياسية.. في مقاومة الاحتلال وفي كل مواقفهم البرلمانية” إلى مجموعة تجمع الأموال وتدعو للخصخصة” ويسخرون من خصومها على اتباعهم المواقف الباسلة التي كانوا يتبعونها.
كتبت أيضاً “اليسار في يومه العاشر”، كاشفا الهبوط المخيف الذي جعل اعضاء أكثر تيار سياسي ثقافة وتضحية وبسالة يتلمس طريقه لإرضاء الاحتلال دون خجل(3)
الشعب المصري حالة أخرى على النمور المروضة (4)، فلطالما كان هذا الشعب هو “النمر” الأكبر والأثقف والأسبق للثورة بين “النمور” العربية، وهناك صورة للزعيم المصري ناصر، يستقبل ملك السعودية وهو يرتدي “نعالا”، لكن الشعب المصري وصل في “يومه العاشر” لدرجة من الإذلال، ليس فقط يستجدي السعودية ويبات في المقابر من الفقر وينحدر في انتاجه الاقتصادي والثقافي، بل أيضا بدأ ببيع جزره للسعودية ولأعدائه.
من هذه المقدمة، اردت تأكيد القاعدة التي سارت عليها قصة تامر، بأن “التورط” بالدخول في “القفص” ستكون له تداعيات مع الزمن، لا يستطيع “النمر” المتورط ان يتخيلها. وأنه بدخوله القفص يفقد قدرته على مقاومة كل تدهور وسيكون عليه ان يستسلم!
فالمعني يدرك ان بوابة القفص هي آخر نقطة مقاومة له، وعليه ان يعتبر أن تلك النقطة هي خط دفاعه الأخير وان يضع فيها كل ما لديه من إمكانيات في مقاومة دخول القفص لأنه لن يكون لديه فرصة مقاومة بعدها.
“النمور في اليوم العاشر” تنبهنا إلى ان مقاومتنا يجب ان تأتي قبل القفص، وأن بعده لا مقاومة، وإننا إن دخلنا فسنكتشف انه لم يعد لنا إلا ان ننسى كبريائنا ونستسلم أو نموت، وهو خيار يجب ان نبذل كل ما نستطيع لتجنب الوصول اليه!
للشعوب والدول، اقفاصها وصياديها. وإذا كان النمر يدرك لحظة سقوطه في القفص، فأن الأحزاب والدول والشعوب لا تدرك ذلك عادة، لأن العملية تتم بخطوات كثيرة، لا تثير أي منها الانتباه. والحقيقة ان القفص يتم بناءه من قبل صيادي الشعوب، بوضع القضبان حولها دون ان تشعر، حتى إذا اكتمل القفص واحاطها، فقدت الفرصة ولم يعد هناك مجال للإفلات، وفقدت كل قدرة على المقاومة والرفض.
الفكرة ان تقاوم دخول القفص، لا ان تقاوم بعد دخوله!
إن إدراك هذه الفكرة من شأنه ان يغير النظرة الى المقاومة تغييراً جذريا. فالفكرة، بتثبيتها الوعي باستحالة المقاومة بعد السقوط في القفص، تعني وجوب نقل كل جهد الرفض والمقاومة، إلى ما قبل دخول القفص! والقفص هنا يمثل اية ورطة يكون الشعب مهدد بها.
فإن اعتبرنا أنفسنا على سبيل المثال، مهددين بـ “حرب أهلية” يريد اعداؤنا دفعنا اليها، ولم نكن نعي مفهوم القفص، فإننا سنكتفي على الأكثر بتحشيد أنفسنا عاطفيا “لرفض الحرب الأهلية” وقد “نقسم على عدم المشاركة بها مهما حدث” وربما نكتفي بذلك ونراقب صامتين ما يحدث.
لكن قصة “النمور في اليوم العاشر” تخبرنا اننا إن سقطنا بالفخ وتمكنوا من ادخالنا القفص، فأن الحرب الأهلية سوف تقع، مهما كان عزمنا ان لا نشارك فيها أو ان نمنعها!
والسقوط في القفص هنا يعني توفر ظروف الحرب. فحينما تكون نسبة كبيرة من الشعب مستقطبة طائفياً او أيديولوجيا، حينما يكون السلاح منتشرا، وحين ترى كل طائفة، الطائفة الأخرى تهديداً لها، وانه لا سبيل الى التفاهم بينهما، حينها لا يكون بإمكاننا ان نمنع تلك الحرب. حينها نكون داخل القفص!
وان كان التهديد هو تقسيم البلد، فستكون بعض شروطه مختلفة وأخرى مشابهة لشروط الحرب الاهلية. وان كان الخطر في الإفلاس الاقتصادي والاضطرار الى بيع ثروات البلاد والقضاء على مستقبلها، فستكون هناك شروط أخرى، وهكذا.
البواسل أسهل سقوطا في الفخ
لننتبه هنا ان الشعب الأكثر شجاعة قد يكون الاسهل سقوطا في القفص، إن لم يدرك مفهومه. ذلك ان هذا الشعب، يشعر باطمئنان كبير، بأنه سيستطيع المقاومة مهما كانت الظروف صعبة. وهذا الإحساس ضروري للجهاد والصمود، لكنه أيضا من الناحية الأخرى يعرقل الحذر الضروري لمن يحرص على عدم الوقوع في القفص. فالذي يخاف ينتبه لكل شاردة وواردة، ويقلقه أي تراجع ويحاول مقاومته، اما الشجاع فقد يسير بقدمه الى الفخ وهو مطمئن، ومن هنا يجب الانتباه!
الشعوب لا “تدخل” قفصاً جاهزاً، بل تبنى اوتاده حولها
في حالة الشعوب والدول، فأن الاقفاص السياسية تبنى كالسياج حول الضحية، وهذا يعني أن على الشعب الذي يريد ان لا يجد نفسه في قفص، ان لا يسمح لأحد ان يبني اوتاد السياج او القفص حوله. وهذا يتطلب بدوره ان نستطيع وبسرعة التعرف على تلك الأوتاد لمنع نصبها او للهرب بعيدا عنها.
ولأن لكل تهديد شروط اكتماله المميزة، فلكل قفص أوتاده المميزة التي تختلف أحيانا وتتشابه أحيانا مع غيرها، حسب التهديد الفعلي.
ليس من الصعب في مثال الحرب الاهلية أعلاه أن ندرك ان كل شرط من شروطها، عبارة عن وتد من اوتاد ذلك القفص. ليس من الصعب مثلاً ان نحزر أن الخطاب الطائفي الذي يحث على او يسبب كراهية أو احتقار الطائفة الأخرى يبني وتداً في قفص الحرب الأهلية. بالتالي، فتسليم اعلامنا الى من يبث به مثل هذا الخطاب، هو خطوة نحو بناء القفص. حين ينتشر السلاح بين الأهالي، نكون مشينا خطوة أخرى نحو قفص الحرب الأهلية. حين يتم تعميم وزر الجريمة على كل أفراد الطائفة التي ينتمي إليها المجرم، حين ترى واحدة ان طائفة تبتزها وتسلب حقها في ثروة البلد، حين تسكت الأصوات الإيجابية المهدئة والمحترمة من الجانبين، واخيراً حين تقتنع كل طائفة أن الحياة ستكون أفضل بعد ان تنتصر على الثانية وتحجمها بقوة السلاح، يكون القفص قد أطبق، ولا يبقى امامنا الا الاستسلام.
مثال آخر: قفص تقسيم البلد، ما هي اوتاده؟
نظام انتخابات مناطقي أو فردي يبعد اهتمامات كل منطقة عن اهتمامات الأخرى، اختلاف اللغة او الطائفة او الدين أو أي سبب لصعوبة التواصل مثل التوتر الأيديولوجي او الطائفي، إحساس كل منطقة بعدم ضرورة المنطقة الأخرى لها وان الحياة ستكون افضل بدونها، إحساس كل منطقة ان المناطق الأخرى تستغلها وتستغل ثرواتها، وجود دستور يتيح الانفصال او لا يعرقله كثيرا او ان يكون الدستور محتقراً يسهل تجاوزه، تكوين إقليم فدرالي كخطوة أولى، وجود جيوش محلية كما كان يقتضي مشروع “الحرس الوطني” الذي كلف العبادي بإنشائه وفشل، الإحساس بالاكتفاء الذاتي عسكريا واقتصاديا، وصولا إلى الإحساس بالتباعد النفسي والمادي بين المناطق او القوميات التي تسكن أجزاء مختلفة من البلد، ووفرة المرتكزات للانفصال، ستمثل اكتمال القفص حولنا.
القفص الجديد القديم – التطبيع
هناك قفص واحد، يمتلك الشعب حساسية عالية تجاهه دائما، وهو قفص التطبيع. فلكثرة ما شهدنا من سقوط في هذا الفخ، صارت كل اوتاده سهلة الرؤية، ولذلك أيضا فأن بناء اوتاد ذلك القفص يجري بحذر شديد. فمعظم الشعوب العربية، ومنها العراق، تعرف ان إسرائيل قد انتصرت تماما على مستوى الحكام، وإن كان تعريف الاغتصاب هو كل علاقة تفرض الضحية غضباً، فأن حكام هذه الشعوب عبارة عن قوادون مهمتهم ترغيب شعوبهم السجينة وترهيبيها بقبول الاغتصاب، بالوعد بالرفاه من جهة والتهديد من الأخرى. الشعوب تدرك جيدا مهمة هؤلاء وتراقب جيداً سعيهم لبناء اوتاد القفص حولها.
ففي العراق أكد وزير الخارجية، فؤاد حسين، إنه “تتم متابعة مجريات الأمور بجدية فيما يخص موضوعة إجراء العراق معاهدة سلام مع إسرائيل، ولكن العراق ملتزم حتى الساعة بمقررات القمم العربية التي عقدت إحداها عام 2012 في بغداد”، واصفاً الخطوة بالـ “الحساسة”، مؤكداً أنّ “القرارات تتخذ ضمن الإطار الاجتماعي”. (5)
هذا الحذر الشديد في اختيار العبارات، تعبير عن حساسية الشعب لأوتاد القفص. ولو لم يكن الرجل كردياً لما تجرأ حتى على مثل هذا التصريح. لكن العدو يحاول جاهدا ان يستغل كل يوم من أيام حكم عميله الكاظمي على العراق لبناء أكبر عدد ممكن من اوتاد هذا القفص، دون ان يثير استفزاز الشعب بشكل يحطم ما بني منها.
بشكل عام، رغم الاختلافات هنا وهناك، فأن اوتاد اقفاص المؤامرات المختلفة (الحرب الاهلية، التقسيم، التطبيع وغيرها)، اوتاد مشتركة في معظم تلك الاقفاص. فالاستيلاء على الإعلام كما هو الآن، يخدم من يسيطر عليه لبناء قفص الحرب الاهلية وقفص التقسيم وبالتأكيد قفص التطبيع، وهكذا. لذلك علينا ان نمتلك حساسية لكل الأنواع من الاوتاد. فكيف نفعل ذلك؟
قلنا إن للأوتاد اشكال مختلفة لكنها بشكل عام كل ما “يقيدنا” و “يقلل من قدرتنا على الاختيار والمقاومة”. فجميع الاوتاد تتصف بهذه الصفات. وعدا ذلك هذه قائمة (غير مكتملة) منها، تساعدنا معرفتها على التعرف السريع عليها واتخاذ الإجراءات الدفاعية، قبل فوات الأوان.
إضافة الى هذه القاعدة الذهبية للتعرف على الأوتاد بأنها “كل ما يقيد البلد ويحدد خياراته” و “كل ما يقلل قدرته على مقاومة الضغط والاجبار”، سأقدم في الجزء الثاني من هذه المقالة قائمة محددة بـ “الاوتاد” التي تبنى حولنا، غالبا دون ان ندري، او دون ان نعي انها “اوتاد” لتكوين قفص حولنا، ولنتذكر دائما: إن دخلنا القفص فلن تكون لدينا فرصة للمقاومة! كل طاقتنا للمقاومة يجب ان توجه لمقاومة دخول القفص!
(1) النمور في اليوم العاشر
https://sites.middlebury.edu/diglossia2018/files/2018/10/an_numuur.pdf
(2) الصدريون في يومهم العاشر – نحن أصحاب الدليل
http://www.almothaqaf.com/b/c3/278-araa2016/904940
(3) اليسار في يومه العاشر… 1- ما الذي أرعب حسين كركوش؟
(4)صائب خليل – المصريون في يومهم العاشر
http://al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/12f.htm
(5) فؤاد حسين يحدد موقف العراق من التطبيع مع إسرائيل