التنازل عن المناصب – تضحية أم خيانة للناخبين؟
صائب خليل
لقد تسبب تعاون عوامل عديدة هي: الاعلام القوي المضاد للبلد، مع غفلة وقلة خبرة العراقيين، وحالة الإرهاب والتوتر المستمرة، تسبب بإحداث خلل فكري خطير، ليس فقط الأفراد من الشعب، بل أيضاً الأحزاب السياسية عموماً، وجعلها تسير كمن ضرب على رأسه، فلم يعد يجد طريقه حتى في الممرات الأساسية الواضحة والبسيطة للسياسة، بل وحتى المنطق. وتصريح هادي العامري، رئيس أكبر كتلة نيابية عند تشكيل الحكومة، يفخر فيه بـ “التنازل عن المناصب التنفيذية”، بحجة انها إرادة المرجعية، وفي حكومتين متتاليتين،(1) هو أحد المؤشرات لحجم الخلل المخيف الذي أصاب المنطق السياسي في العراق.
لكي ندرك حجم الهوة بين تفكير السياسي العراقي وبين المنطق السياسي السليم، دعونا نراجع المفاهيم الاساسية الأولية للسياسة التي لا تتغير بظروف البلد، ثم نقارنها بما هو سائد في العراق. لنبدأ من ابسط مفاهيم الحزب والديمقراطية والحكم والمعارضة والموقف السياسي:
في النظام الديمقراطي الذي يتحكم فيه الشعب بمصيره ومصير بلده، والذي يفترض ان العراق احدى الدول التي تتبعه، يتم تحديد المسار السياسي (بضمنها القرارات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها) من خلال استفتاء الشعب على مختلف الخيارات المتاحة، لتحديد الاتجاه الذي يريده الشعب لوطنه.
ولأن الشعب ليس متفقاً على اتجاه واحد، رأى واضعو النظام الديمقراطي أن العدالة تقتضي أن يتبع البلد رأي “الأغلبية”. ولأن عدد المشاركين بالقرار صار مع الزمن كبير جداً، فقد تم ابتكار النظام النيابي، حيث يختار كل مواطن، مرشحاً ليكون “نائبا عنه” (ومن هنا جاء الإسم)، لطرح موقفه السياسي (موقف المواطن)، في القرارات التي تحدد مصير البلد. ولأن كل نائب يمثل رأي عدد ثابت من المواطنين، فأن الرأي السياسي الذي يمثله العدد الأكبر من النواب، يكون هو رأي العدد الأكبر من المواطنين ويتوجب اختياره.
والآن، لنفرض كمثال مبسط، أنك عزيزي القارئ كنت مؤمنا بأن الخطر الأساسي الذي يهدد البلد هو الاحتلال وأنه يسعى عن قصد لتحطيم البلد. وأن هذا يشمل الاقتصاد والوضع الاجتماعي، والسياسة الخارجية التي يريد فرضها، الخ. واستنتجت أنه لا مستقبل للبلد إلا بإزاحة هذا الاحتلال وان هذا الهدف برأيك له الأولوية الأولى.
وعندما حان موعد الانتخابات، قمت بمراجعة برامج الأحزاب المرشحة، فوجدت أحدها يعطي الاقتصاد الاشتراكي أولوية أولى ولا يهتم بموضوع الاحتلال، وحزب آخر وضع حرية السوق هدفا أولا له وقال إن السيادة كلام عفا عليه الزمن وان علينا ان نتبع الأسلوب الذي تتبعه الدول المتقدمة الخ… وهكذا بقية الأحزاب إلا واحداً منها، يؤمن بضرورة انهاء الاحتلال كهدف أولي قبل كل شيء، وكان قريبا جدا من آرائك، كما ان قيادته تبدو مستحقة للثقة، ويمكن الاعتماد عليها.
على هذا الأساس عقدت عزمك ووضعت آمالك وطموحك لمستقبل البلد في هذا الحزب وقررت انتخابه، وربما ذهبت ابعد من مجرد انتخابه إلى أن تنشط للدعاية له، لخطورة بقية التيارات السياسية وبرامجها، فهو الحزب الذي سينقذ البلد من الخراب الذي يهدده حسب رأيك.
كل هذا ممتاز وجميل، لكن لكي يتمكن الحزب من فرض برنامجه على البلد، يجب ان يكون هو من يتخذ القرارات السياسية في البلد، أي ان يكون الحاكم للبلد، او مشارك أساسي في حكومته. فكرت: إذن يجب ان نتمكن من تنصيب وزير دفاع أمين وحريص بالفعل على أن يحرر الجيش من الحاجة الى الاحتلال، وان يكون شجاعاً ويقوم بعزل الضباط الذين وضعهم الاحتلال في المناصب القيادية التي أدت ان يحتل داعش البلاد قبل سنوات، ولم يتمكن أحد من محاسبتهم. كما يجب ان نحصل على وزارة الداخلية لأن سنوات من الحكومات العميلة ملأتها بالقيادات العميلة كما الجيش تماما. وزارة الخارجية أيضا ضرورية جدا للتخلص من الاحتلال، فالمفاوضات تجري عادة من خلالها. كذلك من المهم اتباع اقتصاد مستقل عن الاملاءات الأمريكية، وسياسة نفطية سليمة تضع مستقبل العراق قبل أي اعتبار آخر، فيجب ان تكون النفط والمالية أيضا لنا، او لحليف قريب من برنامجنا ويؤمن به. بدون هذا لن تستطيع حكومتنا ان تحقق أي شيء.
إنه طموح كبير، لكنك تملك رؤيا لبلدك، ووضعت آمالك هذه في هذا الحزب. انت تدرك ان هذا يتطلب الحصول على الكثير من المقاعد، للتمكن من تشكيل الحكومة، وهذا يتطلب الكثير من الحظ والجهد. فبدون حكومة مكونة من وزراء يؤمنون حقاً بتلك الأهداف، لن يمكن تحقيقها ابداً، وقد يبقى البلد تحت الاحتلال والفساد المتوافق معه حتى تنتهي ثروة النفط أو تباع، ويتحول الى شعب من المتسولين، كما حدث للكثير من الشعوب التي تعرضت للاحتلال. يجب العمل بجد، والدعاء بالتوفيق و و و…
ثم جاءت الانتخابات، ورغم تزويرها والصعوبات الشديدة، تحقق الجزء الأول من الحلم، وفاز حزبك بالأغلبية النيابية! قلت لنفسك: أخيراً سيأتي رئيس الوزراء الشجاع أخيراً، والذي سيخرج الاحتلال ويحرر البلد، وقد صارت بيدنا القوة السياسية والنيابية، كما اننا نمتلك القوة المسلحة ان حاول الاحتلال ان يلعب بذيله!
هذا كله، المفهوم البسيط والمنطقي للأمور، والذي لا يحيد عنه أي بلد او مجتمع مهما كان متخلفا او متقدما، ان اتيحت له الديمقراطية، ومهما اختلفت الظروف في تفاصيلها هنا وهناك.
فما الذي حدث في الواقع في العراق؟ وعلى اية أسس حدث ما حدث؟ لننظر:
فجأة يقوم حزبك ذو القيادة الثورية، والذي حاز على أكثرية المقاعد بفضل صوتك واصوات رفاقك، بترشيح شخص بليد عميل مجرم فرضته سفارة الاحتلال بوقاحة تامة، ليقود البلد!! ما الذي حدث؟؟ اين طموحاتنا وكيف سنحققها؟؟ هل كان كل شيء كذب واحتيال؟؟
رئيس حزبك لا يفتح فمه! … اختفى!
وبعد الصدمة الكبرى تتوالى الصدمات، فيأتيك أخيراً رئيس حزبك ليعلن “متفاخراً”: لقد تنازلنا عن المناصب التنفيذية!! أنه يفتخر بترك العميل ليعين بنفسه من يريد دون شروط! وطبعا لن يعين الوزراء الذين كنت ترجوهم، بل العكس منهم تماما، ولن يسير بالبلد بالاتجاه الذي كنت تأمل به انت ومن منحه ثقتهم مثلك، بل سيسير به نحو الهاوية!
تغضب بشدة، وتتخيل نفسك تصرخ بوجهه: اين وعودك التي تم انتخابك وحزبك على أساسها؟ وهل يسمى التخلي عن الوعود “تنازلاً”؟؟ كيف تعد جمهورك ببلد مستقل ذو سيادة وكرامة، ثم تقوم بتسليمه الى العميل الذي فرضه الاحتلال؟؟؟ هل هو حقك لتتنازل عنه، ام هي خيانة لكلمتك ووعدك وجمهورك؟ من أجل ماذا إذن كانت الانتخابات؟ لماذا لا نختار شخصاً بالقرعة ونسلمه البلد ليقرر حكومته؟
يتحجج القيادي بأوامر المرجعية، لكن كيف ترضى المرجعية ان تسلم المناصب لتابع السفارة وهي التي تؤكد ضرورة سيادة البلد؟؟ وهل طلبت منك ان تخون كلمتك ووعدك لناخبيك، بل تفعل العكس وتسلم البلد للاحتلال، ثم تتركه يقرر المناصب بكل حرية؟؟ لو كنت تفهم أن المقاعد أمانة برقبتك ورقبة وعدك بما ستستخدمها لأجله، وليست ملكا لك تتصرف به كما تشاء بعد نهاية الانتخابات، لكنت طلبت من المرجعية ان لا تحرجك لتخون وعدك. لطلبت منها توضيحا لما قالته وكيف يجب ان تتصرف في هذه الحالة. وإذا تبين ان فهمك لكلامها كان صحيحا، كان عليك ان تخرج الى الناس وتعلن استقالتك وتقول لهم ان المرجعية منعتك من تنفيذ وعودك لهم، ليفهم الناس من المسؤول عما سيحدث في البلد، لا ان تكون شاهد زور.. لا أن تستخدم المقاعد التي منحك إياها الناس أمانة في عنقك لتخدم بها البلد، فتحولها الى هراوة بيد الاحتلال تتيح لهم تنصيب الرجل الذي يريدونه على البلاد، ثم تمنحه صلاحيات كاملة!!
لنفترض أن صاحبنا كان بالفعل يؤمن بأن ما فعله عمل جيد، وانه “تنازل” عن حق له، فما الذي يعنيه هذا؟
إنه يعني ان الرجل لم يكن يرى في المناصب مسؤولية، بل يؤمن بأنها غنائم منحتها له الانتخابات، وانه قدم تضحية وتنازل عن تلك الغنائم، فمن أين جاء هذا المفهوم الأعوج؟
إنه الإعلام! ذلك السلاح الأخطر من بين أسلحة الدمار الشامل والكامل، والمجهز لبث الغازات السامة المسببة للهلوسة، والقادرة على الخروج من أجهزة التلفزيون المنتشرة في كل البيوت. الإعلام الذي حول الحالة الطارئة الخطأ للمحاصصة، الى قاعدة عامة. وبدلا من البحث عن الحزب الشريف الذي سيستخدم تلك المناصب كما يفترض لصالح الشعب، صار البحث عن الحزب المستعد لـ “التخلي عنها”! وهكذا انتهت اهم أدوات الشعب لممارسة الديمقراطية، وانتهت الدعوة لإصلاح الاعوجاج، وتحولت المناصب الى غنيمة دائمة، ورمز فساد ثابت، يفتخر من “يتنازل عنها” بعمله!
ما الذي يعنيه هذا؟ إنه يعني بالضبط أن الإصلاح والخلاص قد اقفل تماماً: فإذا حصل على المقاعد انسان فاسد، فسوف يستخدمها كمغانم ويوظفها لخدمة الاحتلال ولنفسه برواتبها وعقودها. وإن جاء رجل شريف، قام بـ “التنازل عنها”! أي أنه، مهما كانت نتيجة الانتخابات، فالمناصب التنفيذية التي تقرر مستقبل البلد، ستقع في يدي الفاسدين وعملاء الاحتلال في نهاية الأمر. وبهذا المنطق العجيب اغلق باب الأمل امام الشعب!
هل تدرك المرجعية هذا الأمر حين وجهت بتنازل الأحزاب عن المناصب وترك المرشح يختار بكل حرية؟ هل تدرك انها تقضي على كل النظام الانتخابي الذي في البلد، وليس الفساد الذي فيه، ودون ان تأتي ببديل عنه، وأنها تسلم سلطة القرار السياسي لشخص واحد، لا يعلم إلا الله كيف يتم انتخابه؟
ربما تقولون: ان الأحزاب فاسدة ولذلك لا تثق المرجعية بها. وهذا سليم، لكن ألا تدرك المرجعية أن عملية اختيار المرشح والمكلف الذي تطالب ان تسلمه كل صلاحية اختيار الوزراء، هي عملية من أفسد ما يجري في السياسة العراقية، وأن الذي يفوز هو الأسوأ الذي يختاره الاحتلال في النهاية لتدمير البلد؟ وإن كنا نستطيع محاسبة حزب على وزير فاسد ومعاقبة الحزب في انتخابات قادمة، فمن سنحاسب على وزير فاسد اختاره شخص وذهب بسبيله؟ كيف تطالب المرجعية بمنحه الثقة المطلقة قبل ان تطمئن على أسلوب انتخابه وسلامته؟ هل آمنت المرجعية ان المناصب ستبقى الى الابد غنائم رذيلة يجب الابتعاد عنها؟ كيف سيغير المواطن وطنه إن حرم اداته الوحيدة؟ كيف سيوصل صوته ليحدد مسار بلده؟ من أين ستأتي سيادة المواطن على بلده، كما تنادي المرجعية؟
كيف حدث كل هذا؟ كيف صار “التنازل” عن الواجب مفخرة؟ إننا نعلم أنه لو لم يقم الرجل بـ “التنازل” عن المناصب التنفيذية، بل حتى لو طالب بحق تحديد من يشغل بضعة مناصب منها، فسيهجم عليه كل الذباب الإعلامي بتهمة “المحاصصة” والفساد وسيملأ الجو طنيناً انه يجب ان يترك لرئيس الوزراء حرية اختيار حكومته دون تأثير “سياسي”، الخ. نعم، لكن من يتصدى للمهمة ويقوم بترشيح نفسه، يعلم بهذا الأمر ويجب ان يكون قد قرر تحمل ضغط الاعلام الكاذب، ووجد طرقا لتخفيف هذا الضغط وفضح اكاذيبه، وإلا عليه ان لا يبدأ.
أما ما يحدث اليوم فيعاكس كل مفهوم سياسي وكل منطق وكل عقل. فالمنافسة في النظام الديمقراطي الذي تسير عليه كل دول العالم الديمقراطية هي منافسة من اجل حق اشغال المناصب التنفيذية بأشخاص يؤمنون بتوجه الحزب الفائز ويعملون على تحقيق طموحات ناخبيه في وطنهم، وإلا كيف تعمل الديمقراطية؟
لتصحيح الخلل الرهيب، ولكيلا يطالب أحد بالتنازل عن المناصب، على الجميع ان يدرك، وخاصة انت ايها السياسي ان الناس التي صوتت لك، هي صاحبة المقاعد، وما انت الا مدير لأملاكها، وثقت بك، ولم تمنحك تلك المقاعد ملكا لتتصرف بها كيف تشاء. مثلما لا يحق للدلال التصرف بالعقار إلا بحدود وبرضا صاحب العقار، لا يحق للسياسي ان يتصرف بالأصوات والمقاعد التي منحه ناخبوه إياها إلا كما وعد هؤلاء الناخبين، لا ان “يتنازل عنها”، دع عنك ان يسلمها الى أعداء أصحابها وخصومهم. فهل كان تخليك عن المناصب “تنازل” وتضحية أم خيانة؟؟ من يحق له ان يطالب احداً بخيانة؟؟
(1) رئيس تحالف الفتح هادي العامري: لم نطالب بالمناصب لا في حكومة عبد المهدي ولا حكومة الكاظمي